عظة الكردينال البطريرك مار بشاره بطرس الراعي مدخل الصوم الكبير، وعيد القديس البطريرك يوحنا مارون – بكركي، الاحد 2 أذار 2014

“ودُعي يسوع إلى العرس” (يو2: 1)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

1. لبّى الربُّ يسوع الدعوةَ إلى العرس في قانا الجليل مع تلاميذه، وكانت مريم أمُّ يسوع هناك. هي الكنيسة الناشئة كلّها حاضرة في حفلة العرس. فافتتح الربُّ الزمنَ المسيحاني الذي هو زمنُ الفرح والتحوّل والعبور إلى الأفضل في حياتنا الشّخصيّة والجماعيّة على كلّ المستويات. وقدّس الزواج بحضوره، ورفعه من مؤسّسة إلهية طبيعية إلى مرتبة سرّ من أسرار الخلاص السبعة، وسلّم خدمته إلى الكنيسة وإلى كهنة العهد الجديد. تقرأ الكنيسة هذه الآية من الإنجيل اليوم الأحد مدخل الصوم الكبير استعداداً لبدئه غداً مع اثنين الرماد. نرجو أن نعيشه زمن لقاء بالمسيح الفادي، عبر الصوم والصلاة والتوبة وافعال المحبة والرحمة، وهو لقاء يبدّل حياتنا ويسعدها.

وتحتفل كنيستُنا المارونيّة اليوم، وهو الثاني من أذار، بعيد أبينا القدِّيس يوحنا مارون، أوّل بطريرك ماروني على كرسي أنطاكيه. وقد انتُخب بطريركاً انطاكيّاً سنة 685 بحسب التقليد. نلتمس شفاعته من أجل حماية أبناء وبنات كنيسته في لبنان وهذا الشرق وبلدان الانتشار، لكي يواصلوا شهادتهم لإنجيل السلام والأخوّة والفرح.

2. يُسعدنا أن نحتفل معاً بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. فأرحّب بكم وأحييكم جميعاً. وأخصّ بالذكر من بين المشاركين: معالي الرّئيسة القاضي السيدة أليس شبطيني وزيرة المهجَّرين، ونهنّئها بهذه الترقية التي تستحقّها بكفاءاتها وخبرتها وعلمها، ولا سيّما بجدارتها وجدّيتها وإخلاصها للبنان وللشّأن العام. ونتمنّى لها كلّ النجاح والخير؛ والأسرة التربوية في معهد سيدة الجمهور، مع أمين عام المدارس الكاثوليكية؛ وعائلة المرحوم القاضي نصري لحود، شقيق فخامة رئيس الجمهورية السابق العماد آميل لحود، وقد ودّعناه معها منذ شهر. إنّنا نذكره في هذه الذبيحة المقدّسة ونصلّي لراحة نفسه في ملكوت السماء، ونجدّد التعازي لفخامة الرئيس ولزوجة الفقيد الكبير السيدة نجاة ميشال ضو وأبنائه والأسرة اللّحودية وسائر ذويه وأنسبائه؛ وأسرة المرحوم روبير بشاره شكيبان، وقد فارقنا باكراً وودَّعناه بأسف شديد منذ أقلّ من أسبوعَين. نجدّد التعازي لزوجته السيدة نهى يوسف سعد ولأولاده ولشقيقه وسائر أنسبائهم، ونصلّي معاً في هذه الذبيحة الإلهيّة لراحة نفسه في بيت الآب في السماء.

3. في عيد أبينا وبطريركنا الأوّل القديس يوحنا مارون، نجدّد إيماننا الكاثوليكي الذي دافع عنه وتركه لنا عقيدة في كتابه الخاصّ. وهو من سمائه يشفع بنا ويشجّعنا، كما فعل في حياته على الأرض، ويثبّتنا في الإيمان المستقيم، وفي الصمود بوجه المضايق والتجارب المتنوّعة التي تختبر إيماننا، مثلما يُختبر الذهب في النار، لإظهار مجد الله وبناء ملكوته في مجتمعاتنا (راجع رسالته إلى موارنة جبل لبنان).

ونجدِّد التزامنا بهذا الإيمان، حسب روحانيّة أبينا القدِّيس مارون، وتقاليد كنيستنا المارونيّة، الانطاكيّة السريانيّة، بكلّ أبعادها: البُعد اللّاهوتي الذي يضعنا في حالة اتّحاد بالله الواحد والثالوث: بمحبّة الآب، وبنعمة الابن، وبحلول الروح القدس؛ والبُعد المريمي الذي يضعنا تحت حماية أمّنا السماويّة مريم العذراء الكلّية القداسة؛ والبُعد الإنساني الذي يرفع حالتنا البشريّة، بقوّتها وضعفها، بأفراحها وآلامها، إلى قمم الروح في حركة تصاعديّة نحو الله؛ والبُعد الكتابي الذي يشكّل ينبوع روحانيّتنا المارونيّة وصلاتنا وثقافتنا؛ والبُعد النُّهيوي الذي يثبّت حياتَنا على قيامة المسيح الربّ، ويفتحُ قلوبَنا على الرّجاء، فنبني مدينة الأرض على قيم الملكوت.

4. “ودُعي يسوع إلى العرس” (يو2: 1). افتتح الربُّ يسوع رسالته الخلاصيّة بحضور عرس في قانا الجليل، لكي يؤكّد أنّه جاء ليزرع الفرح والسعادة في قلوب جميع الناس، بكلمته ونعمته ومحبّته. وفي الواقع ، أجرى “أوّل عمل فرح كبير” بآية تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة: “خلّص” العروسَين من مأزق نفاد الخمر وفرّحهما، وفرّح كلّ الحاضرين. ولم يكن بالإمكان إجراء هذه الآية لولا تدخّل أمّه مريم وطاعة الخدّام. ما يعني أن لا يستطيع أن يخلص أحدًا بدونه، على ما قال القديس أغسطينوس: “الله الذي خلقك بدونك، لا يستطيع أن يخلّصك بدونك”.

الخلاص يولِّد الفرح. هذه حالنا في حياتنا العاديّة: الخلاص من محنة، من مرض، من خطر، من فقر، من حزن… يولِّد فينا الفرح الدَّاخلي والسلام والطمأنينة.

أمّا الخلاص الذي يحقّقه لنا المسيح فمميّز، لأنّه خلاص من الخطيئة وانتصار على الشيطان وعلى الشّر. وفرحه مميّز لأنّه فرح دائم يغمر العقل والإرادة والضمير والقلب. فرحه لا يأتي من الخارج، بل ينبع من الداخل، انّه شخص المسيح بالذات، الحضور الإلهي في داخل الإنسان المؤمن الذي يقبل نعمة الخلاص، كما وعد: “من يحبّني يحفظ كلمتي، وأنا أحبّه وأبي يحبّه، وإليه نأتي وعنده نجعل منزلاً” (يو14: 23).

5. كلُّ لقاء شخصي وجداني مع المسيح هو لقاءُ عرس، لقاءُ خلاص وفرح، لأنّه يغيّر حالة الإنسان ويبدّلها ويعبر بها إلى الأفضل. زمن الصوم الكبير هو مناسبة مميّزة لهذا اللقاء الشخصي والجماعي مع المسيح. وبالرغم من كونه زمن صيام وتوبة وتقشّف، فهو في جوهره زمنُ خلاص وفرح لكلّ واحدٍ منّا، لأننا با
لصوم والصلاة
 نلتقي الله؛ وبالتوبة نتصالح معه ومع بعضنا البعض؛ وبأفعال المحبة والرحمة نوفّر الخلاص والفرح لأخوتنا الفقراء والمرضى والمعوزين، ولكلّ ذوي حاجة مادية وروحية ومعنوية. ولقد تبسّطنا بهذا الموضوع في رسالتي الثالثة لمناسبة الصوم الكبير وهي بعنوان: “الصوم الكبير، مسيرة روحية نحو الله والإنسان“.

6. لقد فرح اللبنانيون في الوطن وبلدان الانتشار، ومعهم أصدقاء لبنان من مختلف الدول، وفي مقدمتهم قداسةُ البابا فرنسيس والكرسي الرسولي بالمذكّرة الوطنية التي أصدرناها لمناسبة عيد أبينا القديس مارون، ورأَوا فيها خريطة الطريق للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية والأمنية، وإعداد الاحتفال، بعد ست سنوات من الآن، بالمئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير المستقلّة. كما فرح الجميع بتشكيل حكومة جديدة.

إننا نطالب رئيسها والسادة الوزراء والكتل السياسية التي يمثلونها بأن يكمّلوا فرح اللبنانيين وأصدقائهم بإعلان البيان الوزاري الذي لا يُطلب فيه حلُّ النقاط الخلافية بل عرض المبادئ الدستورية والمشاريع التي يعتبرها مجلسُ الوزراء ذات أولوية على ضوئها، في هذه الفترة القصيرة السابقة للموعد الدستوري الحاسم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. أمّا “وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات” الذي تنصّ عليه المادّة 65 من الدستور، فلا يمكن أن يتضمّنه البيان الوزاري، بل يأتي تباعًا في جلسات مجلس الوزراء، وفقًا لأحكام الدستور والثوابت الوطنية. وينبغي، من جهة ثانية، ألاّ تنسى الحكومة والكتل السياسيّة المتمثّلة فيها أنّها حكومة جدّ قصيرة المدى لارتباطها بهذا الموعد الدستوري الذي يبدأ بعد ثلاثة أسابيع. فلتكتفِ إذن بإعلان ما هو مطلوب منها في هذه الفترة المميّزة. وفي كلّ حال، ليس مطلوبًا منها أن ترسم سياسة تلزم رئيس الجمهورية الجديد والحكومة التي ستتألّف فور انتخابه. ولتعمل على إعداد هذا الاستحقاق واتّخاذ ما يلزم من قرارات إجرائية لازمة لا تتحمّل التأجيل، وهما أهمّ ما يمكن أن تحقّقه مشكورة.

7. إنّنا نصلّي على هذه النيّة، ومن اجل الاستقرار في لبنان والسلام في سوريا ومصر والعراق والأراضي المقدّسة. فالسلام عطية ثمينة من الله لكي يعيش جميع الناس في الطمأنينة والفرح وسعادة الحياة. “طوبى لفاعلي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعون”(متى 5: 9). فللّه، إله السلام، الآب والابن والروح القدس، نرفع كلّ مجد وشكران الآن وإلى الأبد، آمين.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير