لم يكتب الإنجيليّون الأناجيلَ بشكل ٍ " سرد ٍ صحفيّ " كما هو معلومٌ . ولم يكتبوا " التاريخ الحصريّ من موقع الحدث " ، بل هو " تاريخ – ولاهوت " معًا . معتمدين على ما جاء في العهد القديم أيضا من أحداث وربطِها مع حدث يسوع الناصريّ ، من خلال سرّ القيامة المباركة . لهذا ، يمكن فهم المعجزة إنطلاقا من المسيح الممجّد .

يقولُ الأسقف الدكتور يوسف توما الدومنيكيّ : "  المعجزة، يمكننا فهمها جيدًا إنطلاقا من المسيح الممجّد، يمكننا فهم المعجزة كإجازة داخل عالمنا ومذاق للجديد الذي في العالم الجديد. وبعيدًا عمّا يقال عادة، أن المعجزة هي مخالفة لقوانين الطبيعة، أما أنا فأراها بالعكس، إعلانا عن وجود قوانين عليا وشديدة التماسك مع عالم أكثر واقعية بدأ بقيامة المسيح. ولعلني أغامر هنا في حقول الغام، لكن أحد الفيزيائيين كتب كتابًا كان يحمل عنوان قوانين الطبيعة المؤقتة " . ويضيف أيضا : " إنّ ما يجعل جمال القربان الذي أحتفل به كلّ يوم، هو أنّ القربان ، في وسط هذا العالم ، حضور حقيقيّ قادرٌ أن يحقّق العالم الجديد. فكلّ مرة نحتفل بالقداس، نعبر نوعًا ما لفترة قصيرة في ذلك العالم الآخر، نعبر بالسفينة لنقف على أرض الأبديّة الثابتة نوعًا ما، كما يقول الفصل الأول من إنجيل يوحنا: الرسل كانوا على رمال متحركة من الوجود الأرضيّ، لكنهم نزلوا من السفينة ووقفوا على أرض ثابتة كان القائم من القبر يقف عليها وقد أعدّ لهم طعامًا وقال تعالوا إفطروا " .

ماذا حدث في الواقع ؟ هل كثّر يسوع حقا الأرغفة بشكل ٍ عجائبيّ ، أم أنّ للرواية قيمة رمزيّة من دون أن يكون لها أساس واقعيّ ؟

يقولُ الأب الدومنيكيّ ماري اميل بومار ، أختصاص في علوم الكتاب المقدّس : " لن يكون بوسع عالم التفسير ، إذا ما ألتزمَ بدوره التفسيريّ ، أن يُجيب ، إلا أنه يستطيعُ ، مع ذلك ، أن يضيف بعض الملاحظات التي تتعلّق بالقيمة الدفاعيّة للمعجزات التي أجراها المسيح : بأيّ مقدار ٍ تبدو المعجزات ضروريّة لدعم إيماننا ؟ هي يتعرّض إيماننا بيسوع للخطر إذا تساءلنا عن مدى واقعيّة بعض المعجزات التي أجراها ؟ "

لا شكّ أنّ المعجزات في الطبقات الأكثر قدمًا من الإنجيل – ويسمّيها يوحنا بحقّ " آيات " – كانت تهدف حقا إلى إقامة الدليل على كون يسوع مُرسلا من قبل الله ، كما كان موسى من قبل (خر 4 : 1 – 9 ) . ففي قانا الجليل ، حوّل يسوع الماءَ خمرًا ، ويشير الإنجيليّ إلى أنه " أظهر مجده ، فآمنَ به تلاميذه " (يو 2 : 11 ) . وفي أورشليم " آمن به كثيرٌ من الناس لمّا رأوا  الآيات التي أتى بها  " (2 : 23 ) . وفي الجليل ، كانت الجموعُ تتبعهُ "لمّا رأوا من الآيات التي أجراها على المرضى " (6 : 2 ) . وقبل أن يقيم لعازر ، قال يسوع أنه يصنع المعجزة " لكي يؤمنوا أنك أنتَ أرسلتني " ( 11 : 43 ) . إلاّ أنّ المسيحيّين ، في حوالي نهاية القرن الأول ، كان بوسعِهم أن يعترضوا على هذا النحو : بالنسبة إلى تلاميذ يسوع ، كان من السهل عليهم أن يؤمنوا لإنهم كانوا يرونَ المعجزات التي صنعها . أمّا  بالنسبة إلينا نحن ، فماذا ؟ على مَ ينبغي أن يؤسَّس إيماننا بيسوع المسيح طالما لم يبق لنا معجزات ؟ .

معجزة تكثير الخبز ، أضفى عليها الإنجيلي مرقس ، قيمة رمزيّة لا تُنكَر . فالخبزُ يشيرُ إلى " كلمة الله "  التي يعطيها يسوع للرسل كي يبلغوها بدورهم إلى الجموع .  وهذا هو الواقع (وهل من واقع ٍ أفضل ؟) الذي يريد الإنجيليّ ، قبل كلّ شيء ، أن يبلّغنا إيّاه  ؛ وذلك هو الأمر الوحيد الذي يهمّنا . لهذا ، فموضوع " معجزة تكثير الخبز " يشيرُ إلى معجزة " الكثرة وسرّ الخلق " . لا يسعني ، أخيرًا ، إلا أن أذكر ما قاله الكاردينال راتسنجر (بنديكت 16 ) بخصوص هذا الأمر : "  .... المسيح هو خصبُ الله اللامتناهي ، قصّة تحويل الماء إلى الخمر ، وتكثير الخبز ، تحيلان إلى مبدأ الــ " من أجل "  على قانون أساسيّ للخلق ، حيث تبدّد الحياةُ ملايين من الخلايا لتأمين حياة كائن ٍِ حيّ ، وحيث يتبدّد كونٌ بكامله تهيئة ً فيه ، في مكانٍ ما ، لموضع ٍ للروح والإنسان .. الزيادةُ هي طابع الله في خلقه ، ذلك أن الله لا يقيسُ عطاءاته ، بحسب تعبير الآباء "  .