اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بنعمة الله
بطريرك السريان الأنطاكي
إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام
وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل
وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المباركَين بالرب في لبنان وبلاد الشرق وعالم الإنتشار
نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالربّ، ملتمسين لكم فيض النِعَم والخيرات:
“هوذا الآن وقتٌ مقبول، هوذا الآن يوم خلاص” (2 كور 6: 8)
نتوجّه إليكم برسالتنا الأبوية هذه في مطلع زمن الصوم المقدّس لهذا العام 2014، وهو، بمعونة العناية الإلهيّة، في كلّ سنة، وقتٌ مقبولٌ وفرصةٌ سانحةٌ، لنتعمّق في معنى هويتنا المسيحية وقيمتها، كما هو فرصة لتجديد حياتنا مع الربّ بالصوم والصلاة وممارسة أعمال الرحمة.
الصوم هو بمثابة رياضة روحية تدوم ستّة أسابيع، تنتهي برتبة الوصول إلى الميناء في أحد الشعانين. ثمّ يليها أسبوع آلام الرب يسوع وصلبه لفدائنا، بحيث يتواصل واجب الصوم حتى ليل القيامة. إنه مناسبة فريدة للإلتزام الروحي والتقشّفي العميق القائم على نعمة المسيح الذي يجدّد لنا الدعوة: “توبوا وآمنوا بالانجيل” (مرقس1: 15).
في زمن الصوم ننقطع عن الطعام واللحوم وسواها تكفيراً عن خطايانا، وتدريباً لإراداتنا، وكبحاً لأهوائنا السيّئة، إذ نسعى خلاله كي نحقّق السيطرة على الأنانية، ونتحرّر من الميول الأرضية محلّقين في أجواء الروح، بفضيلة التجرُّد والطهارة والطاعة لله. زمن الصوم هو زمن ترويض الجسد على الإكتفاء بما يحتاج إليه الإنسان لقوام حياته. وهذه خير طريقة ليتمكّن الإنسان معها من السيطرة على أهوائه، والتزام جانب الإعتدال في كلّ شيء، طعاماً كان، أو كلاماً، أو ما سوى ذلك من شؤون الحياة.
زمن الصوم مسيرة ارتدادٍ بالروح القدس، نلاقي خلالها الله في حياتنا، إذ نلتقي معاً إخوةً وأخواتٍ بالمسيح. وكما اقتاد الروح القدّوس ربَّنا يسوع إلى البرية ليصوم أربعين يوماً ويجرَّب من إبليس، ويختم صومه بانتصاره الرائع على المجرِّب (لوقا 4: 1ـ2)، هكذا يقود الروحُ الكنيسةَ في الزمن، ويهدي خطانا في صحراء هذا العالم، وبخاصةٍ في زمن الصوم، لنختبر مع المسيح نقصنا وضعفنا، وحاجتنا إلى التوبة والتجدّد. الروح يقرّبنا من الله، الذي يخلّص نفوسنا: “أقودها إلى البرية وأخاطب قلبها” (كلام النبي هوشع عن قرب الله من شعبه 2: 16).
وفي تأمّلات آبائنا السريان ضمن صلوات الصوم في كتاب الفنقيث ܦܶܢܩܺܝܬܳܐ، وهو كتاب صلوات الآحاد والأصوام والأعياد، تأمّلٌ يتغنّى بالصوم، داعياً لاقتنائه زوّادةً تقود المؤمن إلى الملكوت:
“ܗܳܐ ܡܰܛܺܝ ܠܶܗ ܨܰܘܡܳܐ ܡܟܰܠܶܠ ܠܰܐܬܠܺܝ̈ܛܶܐ. ܛܰܝܶܒܘ ܠܶܗ ܪ̈ܽܘܡܝܳܢܰܝܟܽܘܢ، ܛܰܒܥ̈ܶܐ ܛܳܒ̈ܶܐ ܘܫܰܦܺܝܪ̈ܶܐ. ܕܡܰܩܢܶܐ ܠـܟܽܘܢ ܙܰܝܢܳܐ ܟܰܣܝܳܐ، ܕܒܶܗ ܬܶܬܟܰܬܫܽܘܢ ܥܰܡ ܒܺܝܫܳܐ. ܦܽܘܩܘ ܠܽܐܘܪܥܶܗ ܟܰܕ ܚܳܕܶܝܬܽܘܢ، ܘܩܰܒܠܽܘܗ̱ܝ ܒܝܰܕ ܕܽܘܒܳܪ̈ܰܝܟܽܘܢ. ܕܡܰܩܢܶܐ ܠـܟܽܘܢ ܓܶܦ̈ܶܐ ܕܪܽܘܚܳܐ، ܕܰܒܗܽܘܢ ܬܶܣܩܽܘܢ ܠܰܡܪ̈ܰܘܡܶܐ”.
وترجمته: “ها قد أقبل الصوم الذي يكلّل الأبطال. أعدّوا له هداياكم، أي أعمالكم الصالحة. فهو يُكسبُكم سلاحاً خفياً، به تحاربون الشيطان. إخرجوا للقاء الصوم بفرح، واستقبلوه بالسيرة الحسنة، فهو يمنحكم أجنحةً روحيةً، ترفعكم إلى الأعالي” (من صلاة مساء الأحد الأوّل من زمن الصوم وهو تذكار تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل، صفحة 14).
الصوم عودةٌ إلى الله بسماع كلامه والتوبة إليه، والتوبة كلمة سريانية ܬܝܳܒܽܘܬܳܐ، أي الرجوع. نرجع إلى الله بسماع كلامه من أجل تسليط أنواره على حياتنا، فنكتشف ما شابها من نقائص، ومن أجل تثقيف عقولنا وضمائرنا بالمبادىء التي تنير سبيلنا ومسلكنا. إنّه زمن التوبة والإعتراف بخطايانا، لتتمّ مصالحتنا البنوية مع الآب السماوي. عندئذٍ نعيش فرحين فصح الرب، بالعبور إلى حياةٍ جديدةٍ أنعمت بها علينا قيامة المخلّص.
في مَثَلِ الإبن الشاطر، “رجع الإبن إلى نفسه”، بهذا “الرجوع” في الفكر والإصغاء إلى صوت الضمير، ” تذكّر” حالته الأولى السعيدة عند أبيه، “كم أجيرٍ في بيت أبي يفضل الخبز عنه، وأنا هنا أهلك لجوعي” (لوقا 15: 17). الرجوع إلى النفس هو طريق التوبة، إنه رجوعٌ إلى الضمير الذي هو حضورٌ إلهيٌّ في الذات البشرية، تنيره الوصايا الإنجيلية، وتصقله الشريعة الوضعية.
“أقوم وأمضي إلى أبي” (لوقا 15: 18)، فلأنّ الرجوع إلى الضمير اقترابٌ من قداسة الله، يكتشف الإنسان حقيقته الداخلية الخاصة التي شوّهَتْها الخطيئة، فيقصد التحرّر.”فنهض ومضى إلى أبيه” (لوقا 15: 20)، التذكُّر ينتهي بالرجوع إلى البيت الإلهي، إلى شركة الحياة مع الله الذي يعيد إلينا البنوّة المفقودة.
يتلازم الصوم مع الصلاة، فهي وحدها تقوّينا لنغلب تجربة اليأس ونقوى على مرارة الفشل أمام المصاعب والمحن والأوجاع، والشعور بالفراغ الروحي الذي نظنّه ناتجاً عن “صمت” الله في حياة البشر. فيسوع، وقد اقتربت ساعة آلامه، ركع وصلّى. لا أحد يستطيع أن يتحمّل ألمه من دون تعزية الله وعضده، ولأنّ المسيح بآلامه تضامن مع كلّ إنسان، فقد أعطى لآلام البشر قيمةً خلاصيةً، وجعلها تواصلاً لآلام الفداء. وهو، بقوّة قيامته، يقطع معنا الطريق في ظلمة الليل الموحشة، ويشدّدنا ويعزّينا.
إنّ الصوم يدعونا إلى ممارسة الصدقة، لننمو في المحبّة، وللتعرّف إلى يسوع ذاته في الفقراء. بالصدقة نقدّم شيئاً مادّياً، كعلامةٍ لعطاءٍ أكبر بإمكاننا أن نقدمّه للآخرين، وهو إعلان المسيح والشهادة له. باسمه تكمن الحياة الحق. فالصدقة هي مجمل أعمال الرحمة التي تحييها المحبّة، نساعد بها إخوتنا وأخواتنا، سواء في حاجاتهم الجسدية بإطعام الجائع، وإيواء الشريد والغريب، وكساء العريان، وزيارة المريض والسجين، أم في حاجاتهم الروحية، بالتعليم والتربية والتعزية والمشورة والتشجيع.
في الرسالة بمناسبة زمن الصوم لهذا العام 2014، يدعونا قداسة البابا فرنسيس إلى ممارسة الصدقة وأعمال الرحمة والخير: “نحن المسيحيّين مدعوون، أسوةً بمعلّمنا، للنظر إلى معاناة إخوتنا في الإنسانية، والإحساس بهذه المعاناة، والعمل على التخفيف من ثقلها فعلياً… وزمن الصوم هو زمن التجرّد، لكي نساعد الآخرين، ونغنيهم بفقرنا… ولن يكون التجرّد صادقاً إن خلا من بُعْدِ التوبة. أرتابُ في الصدقة، التي لا تكلّف صاحبها، ولا تسبّب له بعض الألم”.
ولعلّنا نجد في كلام القدّيس أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة، تحديد مفهوم الصوم وماهيّته، بقوله:
“ܨܽܘܡ ܨܰܘܡܳܐ ܕܰܐܪܒܥܺܝܢ ܝܰܘܡܺܝ̈ܢ، ܘܗܰܒ ܠܰܚܡܳܟ ܠܰܐܝܢܳܐ ܕܟܰܦܺܝܢ. ܘܨܰܠܳܐ ܒܝܰܘܡܳܐ ܫܒܰܥ ܙܰܒܢܺܝ̈ܢ، ܐܰܝܟ ܕܺܝܠܶܦܬ ܡܶܢ ܒܰܪ ܐܺܝܫܰܝ”. وترجمته: “صُمِ الصوم الأربعيني وأعطِ خبزكَ للجائع. وصلِّ سبع مرّاتٍ في اليوم، كما تعلّمْتَ من ابن يسّى (داود)”.
أيها الأحبّاء،
في هذه الأيّام المباركة، ونحن نستقبل زمن الصوم، لا يسعُنا إلاّ أن نسأل ربّنا يسوع المسيح، ملك السلام، كي يبسط أمنه وسلامه في العالم، وبخاصّةٍ في بلادنا المشرقية.
نصلّي من أجل سوريا التي تتقاذفها أمواج العنف والبغضاء بعبثية مخيفة، وتنزف دماً ودماراً وخراباً،
نصلّي من أجل العراق الذي طالت معاناته وازدادت آلامه،
نصلّي من أجل لبنان المهدَّد بالعنف الطائفي البغيض والتشنّجات ومخاطر البطالة والهجرة،
نصلّي من أجل السلام المبني على الحق والعدل في الأراضي المقدّسة، وفي مصر،
ونصلّي من أجل الأردن، وتركيا، وسائر بلاد الشرق،
كما ندعو لكنيستنا في عالم الإنتشار أن تبقى راسخةً في الإيمان، شاعرةً بآلام الكنيسة الأمّ وأولادها، ومدركةً الأخطار التي تهدّد وجودها.
ونصلّي لترفرف في العالم برمّته رايات المحبّة والسلام والأمان والإستقرار.
ليكن هذا الزمن زمناً يحثُّنا على بذل جهدٍ شخصي وجماعي لاتّباع المسيح، فنكون شهوداً لمحبّته!
أيّها الرب يسوع، على مثالك ندخل الصوم المقدّس، راجين أن يكون، بكلمتك ونعمتك، زمن استنارةٍ وتوبة، زمن تغييرٍ وتجدُّد. “فهوذا الآن وقتٌ مقبول، هوذا الآن يوم خلاص”(2 كور 6: 8).
لتعضدنا العذراء مريم، أمُّ الله وأمَتُه الأمينة، في مسيرتنا لبلوغ الإحتفال بعيد قيامة الربّ، ونحن مزوَّدون بالصلاة، والصوم، وممارسة الصدقة وأعمال الرحمة، وقد تجدَّدْنا كلّ التجدُّد بالروح.
وإنّنا، فيما نصوغ هذه الأماني، نمنحكم جميعاً بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية، سائلين الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وصدقتكم، والنعمة معكم.
صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت ـ لبنان
في اليوم الأوّل من شهر آذار من عام 2014
وهي السنة السادسة لبطريركيتنا