إلى إخوتي الكهنة الأحبّاء والراهبات الفاضلات،
وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في أبرشية الإسكندرية،
وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،
الصوم دعوة ونداء لولادة جديدة بدموع التوبة والندامة. ومسيرة صلاة وارتداد تتيح للناس أجمعين أن يتساءلوا أمام الرّب على مدى أمانتهم للإنجيل والتزامهم الفعلي في اتباع السيّد المسيح ومحبّته وخدمته.
إنه يعيد إلى ضميرنا ووجداننا صرخة الإنجيل القائل:
“صوتٌ منادٍ في البرية، أعدّوا طريق الرّب، واجعلوا سُبله قويمة“(مرقس 32:1)
التجدّد الداخلي أساس التوبة:
التجدّد الداخلي يقتضي تحوّلات روحيةٍ عميقة: سهر ومسيرة مستمرة في الصلاة والتضحية والتأمل من أجل تنفيذ إرادة الله ومشيئته، وعلينا أن ندعو السيّد المسيح ليحوّل حياتنا فيتحقّق في كل واحد منّا عمل التأليه والخلاص.
وأيضاً هذا التجدّد يطلب الانفتاح على نعمة الله الذي يغييّر القلوب والإرادات والعادات والتمرّس على ضبط النفس، والإصغاء لصوت الله الذي في ضميرنا ويكلّمنا في الكتب المقدّسة وتعاليم الأباء القدّيسين، “من سمع منكم فقد سمع منّي”. كما يكلّمنا الله في الأحداث اليوميّة التي نعيشها، ويعيشها العالم بأجمعه ببُعديها المُفرح والمأسوي. من هذا الكلام، نستنتج أننا مدعوون جميعاً إلى التوبة والمصالحة والمغفرة، وتغيير المعاملة والذهنية، والإقرار بخطايانا وعدم الإساءة لبعضنا. ونعترف بفقدان روح المشاركة في العائلة والكنيسة والمجتمع. ونقر بأننا أحزنّا الرّوح القدس(أفسس 30:4)، وقتلنا الضمير، صوت الله في داخلنا، الذي ينوّرنا ويرشدنا ويجمعنا لنعمل ونعيش بمخافة الله وتقواه ومحبّته في هذه الفترة التي نستعد خلالها لعذابات وصلب ودفن وقيامة السيّد المسيح، وهذا التجديد يكون لنا هدفاً ومنهجاً لحياتنا.
أولاً: تنشئة الضمير:
لا تجدُّد حقيقي، ولا إصلاح باطني، ولا توبة، ولا مصالحة قبل أن تترسّخ فينا المفاهيم والقيم والمبادئ الإنجيلية والإيمانية في قلوبنا وعقولنا. فمن الضروري تنشئة الضمير على المبادئ المسيحية السليمة. وهذه المسؤولية تقع على عاتق الأهل في العائلة، وعلى الأسقف وكاهن الرعيّة والرهبان والراهبات في الكنيسة، والمربّي والمربّية في المدرسة وتبلغ ذروتها في التمرُّس الاجتماعي السليم.
ثانياً: حضور الرّوح القدس في حياتنا:
الرّوح القدس وحده يستطيع أن يقودنا إلى التوبة وإلى الارتداد. “أرسل روحك أيها المسيح فيتجدّد وجه الأرض”. يعلٍّمنا الرّوح أن المسيح لم يؤسس كنيسة لتبقى في خدمة ذاتها، بل لتكون شاهدة وصاحبة رسالة. إسقاط رسالة التوبة والمغفرة وتجاهلها هو إلغاء لذواتنا وللهدف الذي من أجله دعانا مخلّصنا.
التغلُّب على الخوف والارتداد إلى التوبة بالتواضع والفقر والتجرُّد والسيطرة على الأنانية بالصوم والصلاة وأعمال الرحمة تعلّمنا أن السعادة الكبرى هي في العطاء أكثر منها في الأخذ.
يعلٍّمنا الرّوح أن: “الفرح، والسلام، والصبر، واللطف، وكرم الأخلاق، والإيمان، والوداعة والعفاف” (غلاطية 22:5-23)، هي شريعة المسيح التي تناقض شريعة العالم الخاضع لقوة الخطيئة والتي ينجم عنها: “الدعارة والزنى والفجور وعبادة الأوثان، والسحر والعداوات والخصام، والحسد، والسخط والمنازعات والشقاق والتشييع، والسِكر، والقصف وما شابه” (غلاطية 19:5-21).
ثالثاً: التوبة من أهم شروط الصيام:
جاء يسوع إلى الجليل يُعلن بشارة الله، فيقول: “حان الوقت واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالبشارة” (مرقس 14:1-15). كُتُب العهد الجديد كلها تبيّن بوضوح أن أعمال يسوع وأقواله، لا بل حياته كلها، وبالأخص موته على الصليب وقيامته من القبر، تتمحور حول إعلان ملكوت الله وتحقيقه بين البشر.
ملكوت الله هو تلك الحقبة من التاريخ التي فيها قرّر الله أن يحرر الإنسان من سيطرة الخطيئة والشرّ، داعياً إياه إلى العيش في ظل رحمته ومحبّته وإلى الاشتراك في حياته وسعادته (راجع لوقا 1:15-32).
يسوع المسيح، ابن الله، الكلمة الذي تجسّد وصار إنساناً حقّاً (يوحنا 14:1)، هو المُرسل والمُكلّف من قِبل الله أبيه، أن ينفّذ هذا القرار الإلهي. فمن الطبيعي إذاً أن تكون رسالة يسوع التبشيرية دعوةٌ إلى الإنسان للتحرّر من الخطيئة والشرّ. وأن تأتي أعماله كلها، خاصةً موته وقيامته، تحقيقاً للملكوت، أي انتصاراً فعلياً على الخطيئة والشرّ وبسطاً لسيادة الله على البشر والكون. وانتصار يسوع هذا يعطي الإمكانية ليتجاوب الإنسان مع الدعوة إلى الدخول في الملكوت بالانتصار معه بقوة الإيمان على الخطيئة والشرّ. فالتوبة هي: عملية التغيير التي يمارسها الإنسان على ذاته بفضيلة الإيمان والرجاء والمحبّة ليستطيع أن يسلك طريق الملكوت الذي يدعو إليه السيّد المسيح.
رابعاً: الخطيئة خروج عن الله:
خلق اللة الكون بفعل حبٍّ حرّ، لإظهار حبّه الأبوي، ليكون هذا الكون قادراً على التجاوب مع حبّه. فخلق الإنسان سيّداً على الكائنات. خلقه على صورته ومثاله: عاقلاً، حكيماً، حرّاً مثله ليقدر على التجاوب مع حبّه ويحوّل الكون كله مُلكاً لهذا الحبّ. ولكن الإنسان لم يستطع أن يبقى أمينا لهذا الحبّ. فبدلاً أن يخلق الشركة مع الله وحياته، ت
حوّل إلى الكون وانشغف به مبتعداً عن الله خالقه ومُبعداً الكون كله.
هذه هي خطيئة الإنسان الأصلية التي هي: رفض لدعوته الأساسية، وهي أصلاً الإشتراك بحياة الله وحبّه. لذا خرج الإنسان من إطار حب الله ووقع في عبودية المعصية والشرّ اللذين تملّكا طبيعته وأفسداها بطمس صورة الله ومثاله فيها، فأصبح الإنسان عاجزاً أن يحل بذاته قيود هذه العبودية.
خامساً: التجسّد توجيه الإنسان نحو الله:
أصلح ابن الله المتجسّد الطبيعة البشرية وأعادها إلى حالتها الأولى، وألبثها ثوب النقاوة والطهارة، وأفاض عليها نعمة القداسة كي تتوجه من جديد نحو الله، وحقّق هذه المهمة طاعة لإرادة أبيه، فصار يسوع المسيح آدماً جديداً أميناً لدعوته وهي الإشتراك في حياة الإنسان ومصيره ليصالحه مع الله. وأتمّ السيد المسيح عمله الخلاصيّ مرّةً واحدة في التاريخ لأن عمله هذا يشمل جميع البشر عبر العصور حتى يكتمل ملكوت الله. استمرارية العمل الخلاصي عبر التاريخ هي من صَلب التدبير الإلهي الذي قرره الله الآب وحقّقه الابن المتجسّد. ولكن من سيؤمّن هذه الاستمرارية؟
الرّوح القدس، عطية المسيح القائم من بين الأموات للمؤمنين به، والمرافق لهم إلى منتهى الدهر، يجعل عمل المسيح الخلاصيّ حاضراً وفعّالاً لجميع الشعوب والأجيال والعصور في جميع ظروفهم الرّوحية والاجتماعية والثقافية والنفسية المتطوّرة والمتبدّلة. إنه عطيه المسيح القائم والمنتصر على الموت لجماعة الرسل والمؤمنين بعمله الخلاصيّ. هذه الجماعة هيالإنسان الذي من خلاله، يمارس الرّوح القدس عمله في ضمان استمرارية عمل المسيح الخلاصيّ. إنها الكنيسة، جماعة المؤمنين المدعوين لقبول عمل سرّ المسيح الخلاصيّ والاستمرار به بقوة الرّوح القدس.
الصوم توبة ومصالحة مع الله:
يولد الإنسان بطبيعة بعيدة عن الله، لأن صورة الله تشوهت بفعل خطيئة آدم، الخطيئة الأصلية. من هنا وجب ضرورةً “لولادةً جديدة من الماء والرّوح“(يوحنا 3:3-8)، التي هي إشتراك في طبيعة يسوع المسيح الإلهية والبشرية، ابن الله المتجسّد والمائت على الصليب والقائم من بين الأموات لأجل إصلاح صورة الله فينا نحن البشر.
بالمعمودية يخرج الإنسان خليقة جديدة على صورة الله ومثاله، ثم يُمسح بزيت الميرون المقدّس فيصبح إبناً له، مشاركاً بميراث المسيح. هذا الإنسان الجديد، الذي أصبح ابن الله بالمعمودية، ينمو ويكتمل تدريجياً بالحياة الروحية وبالأسرار المقدّسة. بالذبيحة الإلهية أي “القداس” مائدة الرّب “الإفخارستيا” أو “الشكر الإلهي”، الذي يُقدّم عليها جسد المسيح طعاماً ودمه شراباً ليمتزج بنا ونمتزج به في وحدة هي عربون إشتراكنا الأبدي بحياته وحبّه وسعادته. هذه الأسرار المقدّسة: المعمودية والتثبيت والقربان المقدّس تكوّن إنساناً مُخلّصاً ومؤلهاً من خلال إشتراكه بأسرار تجسّد وموت وقيامة المسيح. هذا السرّ الذي يصبح حاضراً وفعّالاً بواسطة كلمات ورموز تُعبّر عن إيمان الكنيسة بسرّ المسيح، وتستمد قوتها من الرّوح القدس العامل فيها.
لكن الإنسان المولود ثانيةً من الماء والرّوح بالمعمودية والذي أصبح إبناً لله بالرّوح القدس مهدّد دائماً كما آدم عند خروجه من يد الله وقداسته، وقع في الخطيئة وشوه صورة الله من جديد وأفقدته بنوّته لله وأعادته إلى حالة الهلاك. في هذه الحالة يتحتّم على المؤمن الخاطئ أن يقوم بعمل مصالحة جديدة مع الله بسرّ الإعتراف ليرجع إلى الحالة التي كان عليها يوم ما خرج من جرن المعمودية، فيموت من جديد مع المسيح عن الخطيئة ليقوم معه مصالحاً مع الله ومع إخوته البشر، “وقد اعتمدنا في يسوع المسيح، إنما اعتمدنا في موته، فدُفنّا معه بالمعمودية لنموت فنحيا حياتاً جديدة”(روما 3:6-4). فمصالحة المؤمن الخاطئ مع الله عمل توبة يقوم به ويقرّ بخطاياه أمام الله وأمام الكنيسة الممثلة بالكاهن خادم المسيح.
هذا هو الصوم، عودة إلى الذات بفحص الضمير والندامة والتوبة والإقرار بالخطايا والمصالحة مع الله والبشر.
الرّوح القدس العامل في الكنيسة، والعامل الأول والأكثر فعالية في نفوسنا، كفيلٌ بأن يدلّنا على الطرق التي يجب أن نسلكها وأن نمارسها خلال الصوم، لنصل بواسطة سرّ التوبة والغفران والمصالحة والصلاة والصدقة ومحبّة الله والقريب بالقداسة والنعمة إلى الملكوت الذي أعده لنا الرّب يسوع بموته وقيامته.
نتمنّى لكم جميعاً، كباراً وصغاراً، مسيرة حياة روحيَّة مشتركة وتوبةً مقبولة وصوماً مباركاً، تحت عناية الرّب يسوع ونظره، بشفاعة العذراء مريم أُمنا، والقديس يوسف شفيع العائلات، وبصلوات القدِّيس غريغوريوس المنوَّر والطوباوي إغناطيوس مالويان وآبائنا القدِّيسين.