يُقال أن الخطيئة “الأصيلة” هي إرادة الإنسان أن يضحي مثل الله. هذا فقط وجه من وجوه الخطيئة. فالوجه الذي يكمله هو التالي: إرادة ألا نكون أصيلين البتة، عدم إرادة التأليه، عدم إرادة أن نضحي على مثال الله (راجع تك 1، 26 – 27)، عدم إرادة أن نبلغ الملء الذي خُلقنا لأجله (راجع يو 13).
بالنسبة للاهوتي الألماني يورغن مولتمان – الذي يصادف في هذا العام 50 سنة على صدور كتابه الهام “لاهوت الرجاء” – “الوجه الآخر لموقف الكبرياء هو اليأس، الاستسلام، التقوقع والكآبة”. ويشرح مقصده فيقول: “التجربة لا تتألف من التوق العملاق لكي يكون الإنسان مثل الله، بقدر ما تتألف من الضعف، ارتخاء العزيمة، الإرهاق الذي يعيشه من لا يريد أن يضحي ما يريده الله أن يكون”. فما يدين هذا الإنسان ليس الشر الذي لا يفعله، بل الخير الذي يتجاهله.
القديس يوحنا فم الذهب كان يقول: “ليست الخطيئة ما يقودنا إلى الهلاك، بقدر ما يقودنا إلى ذلك نقص الرجاء!”.
ولكن، فلنتساءل مليًا: لم تلجأ النفس إلى اليأس؟
يجيبنا مولتمان بحدس نفسي عميق: “اليأس يريد أن يحمي النفس من الخيبة. وكأن لسان حالها يقول: ’من يرجو كثيرًا يضحي مجنوناً‘. ولذا تسعى للبقاء في أرض الواقع و ’التفكير بوضوح والتوقف عن الرجاء‘ (ألبير كامو)”.
وهنا يتجلى الوجه الخادع لليأس: فليس من الضروري إظهار وجه يائس، بل قد يُظهر المرء تشاؤمًا “منطقيًا” تجاه المستقبل، تجاه المعنى، إلخ… لا بل قد يأخذ اليأس معالم بسمة ساخرة، بسمة ترحّب بالحزن وتستضيفه! وتبقى مطبوعة على الوجه وفي القلب تلك الابتسامة التي تميز من استهلك كل إمكانياته ولم يعد يملك أي مدعاة للرجاء.
إن الإنسان الذي يثور على الله لا يلعب دومًا دور “بروميثيوس”، بل أيضًا موقف “سيسيفوس”، أي موقف الفاشل الصادق الذي ينطوي على فشله ويعانق النقص، المحدودية، العدمية… وكأنها الحل الجدي والواقعي الأمثل والموقف المنطقي الوحيد.
ولكن، يذكرنا مولتمان، “إن القوة التي تجدد الحياة لا تكمن لا في مزاعم القوة ولا في استسلام اليأس، بل في الرجاء الثابت والأكيد”.
تتمتع كلمات الفيلسوف الإغريقي هيرقليطوس بقوة تكاد تكون سحرية: “من لا يرجو غير المتوقع لن يناله!”.
ليس الأمر مسألة وهم، فمولتمان يذكرنا بأن الرجاء وحده يحق له أن يصف نفسه بـ “الواقعي”، لأن الرجاء وحده “يأخذ بجدية الإمكانيات المُتضمَّنة في الواقع… فالرجاء والتوق إلى المستقبل ليس إشعاع تجلٍ يهدف إلى تجميل وجود باهت، بل هو حدس حقيقي لإطار الإمكانيات الحقيقية الموجودة”.
وعليه فالرجاء بعيد كل البعد عن الطوباوية (utopism). لا يتوق إلى “أرض الأحلام” (Neverland) بل إلى ما ليس حاضرًا الآن ولكنه يستطيع أن يكون حاضرًا. وعليه، إذا أردنا أن نكون جديين وصادقين، اليأس هو الطوباوية [الطوباوية تعني حرفيًا: انعدام المكان]، لماذا؟ لأنها تتعلق بما ليس موجودًا، بما قد زال وولّ، ولا تفسح لما هو ممكن أي مجال أو مكان!
من هنا يخلص مولتمان إلى القول: “يجب على تصريحات الرجاء الكامنة في الإسكاتولوجيا المسيحية أن تنطبق أيضًا على التصلب الطوباوي الواقعي لكي تحافظ على شعلة الإيمان، وتقود الطاعة التي تُترجم نفسها في المحبة، على سبل الوقائع الأرضية، المادية والاجتماعية”.