الغالبيّة تفكّر في مكان آخر بعيد ، وفي الماضي تصوّروا السماء أو الجَلَد وبالتالي الله ، فوق . حيث تخيّلوا السماء كقبّة صلبة ، والله في سماء السماوات ، لكنّ المسيح يقول لنا : ” إن ملكوت الله بينكم ” لوقا 17 : 21 . بهذا نسف يسوع المفهوم القديم ، وأصبحت السماء بداخلنا ، معنا على الأرض . وهناك دليلٌ آخر وصورة أخرى ألا وهو ” عماد يسوع ” ، في الوقت انفتحت السماوات ونزل الروح القدس وصوتٌ من السماء قائلا :”هذا هو إبني “. أين الجحيم ؟ هنا بداخلنا ، وكذلك المطهر والفردوس .
لماذا إذن نقول ” عالم آخر ” ؟ لنتأمّل في وضع الجنين في بطن أمّه ، هو في عالم آخر وفي الوقت نفسه ، ما زالَ في عالمنا ، والمسافة بينه وبين الأمّ أقرب ما تكون ، لكنّها أبعد ما تكون أيضا ، والبُعد هنا معنويّ وليسَ مكانيّا ، نظرًا إلى عدم وجود صلة أو لغة بين كائنين. فعلى المستوى الإنسانيّ ، ليس هناك علاقة شخصيّة ، لكن هناك علاقة وجدانيّة حسيّة . هي لا تعرف مَن هو ، وهو بدوره لا يعرف مَن هي ، لكنّه مرتاحٌ وسعيد ، لا يتعبُ في قضاء حاجاته البيولوجيّة حيث تتمّ من خلال حبل الصرّة ، وبالرغم من ذلك وبعد فترة يبدأ بالقيام بحركات معلنا رغبته في الخروج ، لإنه يريدُ الإنطلاق وليس الراحة ، وكأن هناكَ إتفاقــــًا ضمنيّا بين الطرفين على هذه الرغبة . هكذا الإنسان مرتاح على الأرض ، يريد أن يبقى ، وفي الوقت نفسه بداخله رغبة في أن ينطلق ، ” فلي رغبةٌ في الرحيل لأكون مع المسيح وهذا هو الأفضل جدّا ” فل 1 : 23 .
إذن ، نستطيعُ القول : إنّ الأموات الآن يعيشون بداخل الأحياء ؛ الموت هو إتحاد البشر بطريقة ٍ غير مرئيّة في سبيل العودة إلى بطن الأمّ ، هو العودة إلى البشريّة النامية ، التي تتقدّم جيلا بعد جيل ، بمعنى آخر : أنا أحملُ بداخلي إبراهيم وموسى وأيليا ، وكلّ الأجيال السابقة ووالدي ووالدتي ، كلّ هؤلاء بداخلي يكمّلون مسيرتهم بمساعدتي ومعونتي وفي المقابل ، هم يساعدونني بحياتهم . ليس هناكَ غير مسيرة بشريّة واحدة هي على الأرض ، الأموات بداخل الأحياء يدفعونهم بحياتهم وجهودهم وآلامهم إلى التقدّم، فنحنُ نحملُ بداخلنا كلّ الأجيال السابقة ومن خلالهم نواصلُ مسيرتنا إلى الأمام ؛ الجسد الواحد هذا هو جسدُ البشريّة الحيّ الذي يعيش علاقة وطيدة عميقة ( شركة القدّيسين ) في سبيل أن نساعد َ بعضنا بعضا ، جميعنا في السفينة نفسها هي ” بشريّتنا ” ، وكلّ ما أفعلهُ له تأثيرٌ في موتانا .
كلّ إنسان بعد موته ، يدخلُ وراء ستار ، ويبدأ في تكوين الجسم الكامل من وراء ستار الموت . من وراء هذا الستار ، يتمّ بناء جسد البشريّة . حين يموت الإنسان ، نتصوّر دائمًا أننا سنكون حالة ” هلاميّة خياليّة ” كلا ، فالإنسان بعد الموت يعيشُ الوعي الكامل ، وتحقيقُ الذات الكاملة على المستوى الذي وصل إليه .
نبّهنا المسيح قائلا :” ولن يُقال ها هوّذا هنا ، أو هوّذا هناك ، فها أنّ ملكوت الله بينكم ” لوقا 17 . هذا يؤكّد عودة الأموات إلى ” تيّار الحياة ” التي انبعثوا منها من حالة اللاوعي إلى الوعي ، أنا قبل الولادة كنت في شكل ضمنيّ في ما يطلق عليه ” تيّار الحياة ” ، إلى أن ولدت وأتخذت هذا الشكل وهذا الإسم وتلك الهويّة ، فأصبحتُ ” أنا ” هذه الأنا ( خالدة ) ، كما يقول البابا بنديكتوس 16 : ” الإنسان منذ الخلق ، معدّ للخلود ” ، وكما يقول المطران سليم بسترس أيضا ” الإنسان روحٌ يعبّر عن ذاته في جسد ” . أن الموت هو إتحاد بالكون ، إتحاد بالبشريّة الحالية ، إتحاد الأحياء في شكل واع ٍ . الموت هو لحظة ُ الوحدة والإتحاد ، هو يحقق رغبة الحبّ الأتحاديّة .
يتبعُ ..