الزمن الأبدي

حين نموت .. أين نذهب ؟ (4) ب

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

مفهومُ ” الزمن الأبديّ ” الذي وردَ ذكرهُ في القرون الوسطى ، والذي أشار إليه ( ج. لوفينك ) أيضا ، الذي إنطلاقا من تحليل وجود الملائكة يحاولُ وصفَ الحالة الخاصّة بــ ” زمن الروح ” . يرى لوفينك ، أنّ الموت لا يُفضي إلى عدم الزمن بل إلى نوع جديد من الزمن ، وهو زمنٌ خاصّ بالروح المخلوقة . من جهة أخرى ، ” الزمن الأبديّ ” يعبّر في الواقع عن حالة الفرد الذي يدخلُ في الإكتمال ، ومع ذلك لا يصيرُ شخصًات معزولا عن الزمن ؛ هذا هو المعنى الحقيقيّ لهذا المفهوم . لكنّه لا يعني على الإطلاق ، أنّ التاريخ في مجمله  يمكن القول فيه ، من أية جهة ٍ نظر كانت ، أنه قد وصلَ منذ الآن إلى إكتماله ِ.

يتكلّم القدّيس أوغسطينوس في إعترافاته عن ” الذاكرة ” ، فيصل بها إلى الماضي والحاضر والمستقبل ، وقد إجتمعتْ بطريقة فريدة تسمحُ ، من جهة ، بتصوّر ما يمكنُ أن تكون ” أبديّة الله ” ، وتُفسح في المجال ، من جهة ٍ أخرى ، لإدراك الطريقة الخاصّة التي يرتبطُ فيها الإنسان بالزمن ، ولإدراك تفوّقه على الزمن. في هذا الإعتبار ، يعي أوغسطينوس أن الذاكرة لا تخلق هذا الواقع الملفت للإنتباه أي ” الحاضر ” ، إلا بإدراك دائرة محدّدة في مجرى الأشياء الدائم ، وبتجميعها بمثابة ” حاضر ” . في الذاكرة ، الماضي هو أيضا حاضر ، ولكن بحيث إنّ حاضرَ هذا الماضي يختلف عن حاضر ما ندعوه ” حاضرًَا ” : نحنُ هنا بصدد حاضر ٍ ماض ٍ – حيث الماضي هو حاضرٌ بصفة كونه ماضيًَا ؛ والأمرُ عينه يصحّ بالنسبة إلى حاضر المستقبل.

أخيرًا : ماذا يعني هذا ؟

يعني أنّ الإنسان ، من حيث هو جسمٌ طبيعيّ ، يشاركُ في الزمن الطبيعيّ الفيزيائيّ الذي يقاس ، بحسب سرعة دوران الأجسام ، بمقاييس هي أيضا متحرّكة وبالتالي أيضا نسبيّة .  لكنّ الإنسان ، ليس جسمًا فقط بل روح . وبما أن كليهما لا يمكنُ فصلهما فيه ، فإنتماءه إلى عالم الأجسام يؤثّر أيضا في إكتماله الروحيّ ؛ ومع ذلك فهذا الإكتمال لا يمكنُ تحليله إنطلاقا من المعطيات الطبيعيّة الفيزيائيّة وحدها . إنّ مشاركته في زمن الأجسام تؤثّر على زمن “وعيه” ؛ لكنه في أعماله الروحيّة ، ” زمنيّ ” بطريقة أخرى وأعمق ممّا هي عليه الأجسام الطبيعيّة الفيزيائيّة. حتى في الميدان ” البيولوجيّ ” ، فالزمن يتحقّق على مستوى مختلف عن المستوى الذي يتحقّق فيه الزمن الطبيعيّ الفيزيائيّ ؛ فزمنُ الشجرة  ، الذي يقاس بحسب الحلقات التي تدلّ على سنوات عمرها ، هو تعبيرٌ عن وحدة حياتها الفريدة وليس مجرّد حلقة من حلقات دوران الشمس .

ويذكرُ البابا بنديكت 16 هنا أيضا ، الإنسان ليس لهُ زمنٌ على الصعيد الطبيعيّ الفيزيائيّ وحسب ، بل أيضا على الصعيد الأنثروبولوجيّ. لنسمّ هذا ” الزمن الإنسانيّ ” ، إستنادًا إلى أوغسطينوس : زمن الذاكرة ، فإنّ زمن الذاكرة هذا يتّسم بعلاقة الإنسان بالعالم الماديّ ، من دون أن يكون مرتبطا به إرتباطا تامّا ، ولا أن يكون منفصلا عنه إنفصالا تامّا . هذا يعني أنّه عندما يخرجُ الإنسان من العالم البيولوجيّ ، ينفصلُ زمنُ الذاكرة عن الزمن الطبيعيّ الفيزيائيّ ، وحينئذ يستمرّ بمثابة زمن ” الذاكرة المحض ” .

يقول كارل راهنر :  النفسُ ، في الموت ، لا تصيرُ مجرّدة عن الكون ، بل كليّة الكون . هذا يعني أنها – من طبيعتها – تبقى معدّة للعالَم الماديّ ، حتى إذا لم تكن قائمة في شكل ” مبدأ إكتمال ” لهيئة عضويّة ، فهي مع ذلك ، بحدّ ذاتها ، وفي مجملها ، معدّة لهذا العالم . الإيمانُ لا يرى في المسيح ، حقيقة خارجيّة ، بل نقطة إنطلاق حقيقيّة لكلّ الكيان المخلوق، وبمجيئه من الخارج ، يستطيعُ بالتالي ، أن يكمّل الكون في عمق أعماقه (بنديكتوس السادس عشر )  .

أخيرًا : الإنسان ، بموته ، يخرجُ هو نفسه من التاريخ ، الذي ينتهي أمره ” مؤقتا ” بالنسبة إليه ؛ لكنّه لا يفقدُ علاقته بالتاريخ ، لإن شبكة العلاقات البشريّة هي جزءٌ من كيانه بالذات . يجبُ أن يكونَ هناكَ إرتباطٌ قويّ وحقيقيّ بين المسيحانيّة (علم المسيح ) والأنثروبولوجيّة (علم الإنسان )  .. فأنثروبولوجيّة وحدها لا يمكنُ أبدًا أن تعطينا أيّ صورة حقيقيّة واضحة لمعنى الحياة والموت بمعزل عن المسيحانيّة ، فنحنُ إنطلاقا من المسيح – المسيحانيّة ، نفهمُ سرّ الإنسان (حياته وموته ) .. فالله ليس فكرة مبهمة لا تمتّ للعالم وللإنسان وللتاريخ بأيّة صلة ( إلهنا واقعيٌّ وله منطقٌ لا نقدرُ أن ندخله ونسبر أغواره – شخص يسوع المسيح فقط ، فتحَ لنا نافذة للدخول في سرّ الحياة والموت) .

وفي النهاية أقول : إن كنّا نؤمن بحقيقة الملائكة وبوجودهم ، على الرغم بإننا لا نراهم ! ؛ فكيف إذن الإنسانُ الذي هو أعظم من الملائكة ، و “صورة الله ومثاله ” ، يفقدُ كيانه من بعد الموت ؟ ! مستحيلٌ هذا طبعًا ، فحياته الأرضيّة سرّ ، والأبديّة سرّين ونصف ( للفكاهة ) . ربنا يكون معكم دائمًا ، وأعتذر على طول الموضوع .

هنا إنتهى الموضوع ، رغم أنهُ طويل وله شروحات أكثر . لكن إن كانت هناكَ تساؤلات ، بكلّ حبّ ، إن قدرتُ ، أجيبُ عليها .

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير