ثورة التجسد

تأمل في مقدمة إنجيل يوحنا

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

يبدأ إنجيل يوحنا بمقدمة “تقطع النَفَس”. ففي 18 آية فقط يلخض الإنجيلي تاريخ الخلاص في بعده اللاهوتي الأسمى، بأسلوب سهلٍ ممتنع.

تبدأ المقدمة باعتراف إيمان: “في البدء كان اللوغوس (الكلمة)، واللوغوس كان لدى الله، واللوغوس كان الله” (يو 1، 1). قبل كل شيء، في البدء، لم يكن هناك العدم، لم يكن هناك صمت اللاشيء. لو لم يكن هناك إلا العدم، لما كان هناك شيء الآن، لأنه من العدم المُطلق لا يأتي شيء البتة! أنا الذي أكتب وأنت الذي تقرأني، كلانا شهود أن في البدء لم يكن العدم!

في البدء، قبل كل شيء، كان هناك حوار حب أبدي. الحب الكامل المطلق كان الهبة المُعطاة والمُتلقاة بفيض لا يوصف، منذ الأزل! إلى حد ما، ما قلته حتى الآن، تمكنت بعض الفلسفات العريقة القديمة من التلميح إليه.

مفارقة الإيمان المسيحي وحتى “جنونه” هي الخطوة التالية، خطوةٌ ما كان ولن يكون بوسع الفلسفة استيعابها، لأنها لا تتبع منطق البشر بل منطق الله، منطق جنون حبه. يقول لنا يوحنا: “الكلمة صار جسدًا وحل بيننا” (يو 1، 14).  “حل بيننا” بالعربية، لا يعبّر عن غنى التعبير الأصلي الذي يعني حرفيًا: “وضع خيمته في وسطنا (أو فينا)” (eskēnōsen en ēmin). ووقع كلمة “eskēnōsen ” يذكر أبناء الثقافة العبرانية بكلمة “شكينا” (Shekinah)، أي حضور الله الحي في وسط شعبه إسرائيل. فبالكلمة المتجسد، يضحي حضور الله في وسط شعبه، حضورًا ملموسًا، جسديًا. الله يبين عن ذاته حقًا وبشكل ملموس أنه “عمانوئيل”، الله معنا. الله لا يوصف، لا يُرى، وكل محاولة لحصره تتضمن خطرًا كامنًا، وهو خلق “وثن” بدل الحديث عن الله. هذا الخطر يزيله الله بالذات من خلال قول ذاته في الكلمة! يمكننا الآن أن نسمع الله في الكلمة وأن نلمسه في الكلمة المتجسد! تتجلى حقيقة الله كحياة وكطريق: لم يعد نجمًا لا يطال في غياهب الأفق البعيد يعذب أشواقنا ويحرقها! الله حياة، الله لقاء، الله طريق.

إن القديس أغسطينوس، الذي بحث عن ملء الحكمة في كل سبيل، بعدما التقى حقًا بيسوع المسيح قال يومًا: “كنت أبحث عن السبيل الذي يوصلني إليك لأتنعم بك، ولكني ما كنت لأجده حقًا، لو لم أتمسك بالوسيط بين الله والبشر، الإنسان يسوع المسيح، الذي هو الله المبارك إلى الأبد”. في يسوع، نعانق الكل في الجزء، الأبدية في الزمن، الروح في الجسد. فلنعد إلى لغة مقدمة إنجيل يوحنا: “الله، لم يره أحد قط: الابن الوحيد، القائم في حضن الله، هو كشفه عنه” (يو 1، 18). من يرى يسوع، يرى الآب (راجع يو 14، 9). حب يسوع، رحمته، تواضعه، ما هي إلا إشعاع لوجه الله الحق، وجه المحبة (راجع 1 يو 4، 8 . 16).

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير