الخلقُ، ليس خلقًا من مادّةٍ سابقة، كأن يكونَ الشيء غير موجود، ثم يوجده الله كساحر. الله ” خلق ” ، وليس ” صنع ” كما يصنعُ النجار غرفة ما من مواد أوليّة موجودة مسبقا. تصوّر حقير مثل هذا، ينبغي أن نمحوهُ من عقلنا وفكرنا ومخيّلتنا، كما نمحو الشوائب والأوساخ من الماء في عملية التصفية، وهذه التصفية تعمل فينا فقط عندما نقبل أن نكون مصغين إلى نداء الله، ولا نتكبّر ونكون متعجرفين له.
الخلق، خلقٌ دائم أبديّ مستمر، خلقٌ في الحاضر والمستقبل. عندما يخلقُ الله، فانه يجدّد الماضي، ويفعّل الحاضر، ويعطي رجاء أبديا، جاعلا منا أشخاصا ذوو إنطباعات إيمانية تتفاعل وتنصهرُ في جزيئات حياتنا الانسانية كاملةً، لنرى الأمور وتتوضح الاشياء أكثر فأكثر، في البدء نرى العالم والبشر وكأنهم اشجار، ثم بعد ذلك سوف نرى العالم على حقيقته. في هذا الصدد نرى تلميحا رائعا للكاردينال فالتر كاسبر فيقول، الايمان بالخلق، قد نشأ كنتيجة وكمسوّغ للايمان الكتابي بالتاريخ. ينتجُ من هذا، ان القول بان العالم هو خليقة الله، ليس نظرية في نشأة الكون، يمكن وضعها مقابل نظرية التطوّر، أو العمل على الانسجام بين النظريتين. الخلق كمقولة لاهوتية، والتطوّر كمقولة في علم الطبيعة، لا يجيبان عن السؤال عينه، التطوّر يتعلق بكائناتٍ مفترضة من قبلُ، وما يعالجه هو كيفية تغيرها انطلاقا من قواها الذاتية (..) ويضيف، ان الواقع، ولا سيما المادة، وجسد الانسان، ليس في نظر الايمان المسيحي بالخلق، مبدأ شريرا مناقضا لله، بل هو واقع أرادهُ الله واستحسنه، انه نعمة من نعم الله، وبذلك يقضي الايمان بالخلق على فكرة اعتبار الواقع عملا شيطانيا.
اذن، الخلقُ هو الإكتمال، التكميل، وصنعُ العالم الجديد. الأب الدكتور يوسف توما الدومنيكاني، يذكر في دراسته حول الخلق ونهاية العالم هذا الشيء الرائع ويقول: “منذُ البداية نوضّح، أن معنى الخلق هو الاكتمال، وهذا التوضيح شديد الأهمية، لئلا نقع في تناقض التوتر بين الوجود والاكتمال، الهوية العميقة والملء، عالم الواقع أو عالم الله أو المثال”.
في البدءِ، إذن.. نقرأها لا كبدايةٍ في الزمن، لكنْ كمبدأ كلِّ شيءٍ جديدٍ ومدهش، كلّ لقاءٍ مع الله في أيّ نقطةٍ من نقاطِ هذا التاريخ اللولبي، هو مبدإ جديد وبدءٌ جديد. إذنْ، هنا يجبُ أن نرى الزمنَ والتسلسلَ الزمني لا ماديا ولا موضوعا ظاهريًّا صرف، لكن في ذهننا فقط، لانه سيعشّش ويتعشّق في كلّ حياتِنا وكيانِنا الإنساني. البدايةُ الحقيقيّة نابعةٌ من اللقاء مع الله، وكلّ لقاءٍ وإهتداءٍ هو، (في البدء.. ونستطيع القول عن يسوع، انه في البدءِ كان الكلمة، كان المعنى واللقاء الحقيقي مع الله، لانه مبدأ وبداية الجديد والمدهش والعظيم.. انه البداية المطلقة من رحم العذراء الطاهرة). يسوع هو (بدء ومبدأ). هو الانسان النموذجي الحقيقي. اذن، تاريخ الله في العهد القديم، هو تاريخ مستمر أبدي، تاريخ العهد القديم، هو تاريخ بشريتنا الأسود والأبيض وكل الألوان الاخرى، هنا يذكر ايضا الاب يوسف توما، ان اللاهوت الكتابي والمسيحي، الذي يربط بين عمل الله الخالق في البداية، وتدخله في الوجود والاكتمال، هو ربطٌ محكم، لكن هذا سيجعلنا نعيد النظر في مسألة الواقع لكي نتجنّب الوقوع في تجربة اعتباره غريبا عنّا، أو مجرّد حقلٍ أستعمله لاكتشاف حريتي، أو ورقةً اكتب عليها أفكاري وتاريخي.
إذن، التاريخ القديم، لا يجب تصوّره في سالف الدهر والأزمان، وقصّة كان يا ما كان، بل هو تاريخ مزروعٌ فينا الآن، مسجّل في العقليّات والنفسيّات والكيان، التاريخ الجديد هو تاريخ يولد فقط بتدخّل روح الله في كيان الانسان والشعوب، ليجمع جسد الإنسان وأوصاله ويكوّن كيانه الحقيقي. وهنا، نصل الى نقطةٍ أخرى مهمة لابد من ذكرها .. أن روح الله لا تأتي كشيءٍ يسقطُ على الإنسان من فوق، بصورةٍ كاريكاتورية هزليّة، بل أنّ روح الله يتفاعلُ مع روح ونَفَسَ الإنسان، وتكوِّن وتخلقُ جسدهُ وكيانَه، دائما وأبدا في كلِّ لحظةً، لكن من دونِ أن يضغطُ روح الله هذا على حريّة الإنسان، وعلى إرادته. الانسان له دورٌ فعّالٌ هنا.. والأنبياء والرسل لهم حالةٌ خاصّة من كشف الوحي لهم…!