في هذا الصدد، لنرى ما يقوله لنا الكساندر بوب في قصيدته المعنونة “مقالة في الانسان”، حيث يقول هذا الشاعر هذه الكلمات الرائعة: “إعرف نفسك، ولا تزعم معرفة الله، فموضوعُ درس البشريّة هو ابن البشر”. بوب يعتبر، أن البحث بشأن الله، ما هو إلا مضيعةً للوقت، ما هو إلا سعيُ الفراشة للطيران نحو القمر، لكن لاجدوى، وعليه، ينصحُ بعدم ضياع الوقت في هذا البحث.
اللاهوت المسيحي، يقبل بالتصريح الايجابي في الله، ويبيّن من خلال الخبرة، أن اكثر ما نعرفه عن الله، هو بالواقع، ليس وصفا له وتحديدا، بل وصفا لما ليس هو. ولهذا، فالنفي واللاهوت السلبي كما يقال عنه، غايته، ليس واقعنا في الله، بل النفي هو نتيجة لضعف قدرتنا، فنور الله هو غايةٌ قصوى، لدرجة أننا نجدنا كعميان أمامه. هو كما يسميّه ديونيسيوس المنحول “ظلمةً منيرة”.
في الله، مفارقاتٍ عجيبة جدا، لا نقدر أن نستوعبها وندركها، لكن، نقبل بها فقط، لانها مهمة جدا في تصفية ذواتنا وكياننا وعدم إنقراضنا. ومن الناحية الأخرى، الظلمةُ النيّرةُ هذه، والمفارقة في الله، دليلٌ على أن الله كائنٌ شخصاني بإمتياز، ومعرفة الله هي، رؤية في عدم الرؤية، لانه، في حضرة الكائن الشخصي “الجهلُ أكثر تقوى من المعرفة المتعجرفة”، كما يقول القديس أوغسطينوس. فالله إذن، ليس موضوع دراسة فحص وتجريد، انه وان أصبح موضوعا، فهذا ليس الله قط، واذا تصوّرنا ان إحدى أفكارنا هي الله، فنحن نكذبُ على أنفسنا، لاننا جعلنا من فكرةٍ بشريةٍ فقيرةٍ مريضة، ومحدودة، قد تكون ممتلئةً بالأوهام، فكرة فقيرة ملطّخة بالهلوسات عن الهنا..! .
ديونيسيوس الاريوباغي المنحول، يتحدث عن الله كـ “هويّة خفيّة”، وكـ “مجهول”. وحرفيا، إن أردنا ان نشرح معنى الكلمات، دون اسم أو كلا شيء. مايستر إيكارت، يصفُ خبرة الله في الالمانية القديمة بـ HIHTES NIHT أي ” فراغ العدم”، والقديس يوحنا الصـليبي يستعمل تعبيرا مماثلا فيتحدث عن “الليل المظلم”.
هذه المحاولات، هدفها واحد، وهو تبيان طبيعة الايمان في حضرة الاله المسيحي، تبيان طبيعة الانسان وموقفه من امام الله، وأن يبتعد عن التكبّر والغطرسة الكيانية، جاعلا من ذاته سيدا على الله، وعلى الآخرين، مبتعدا عن تصّوراته الخاطئة ووساوسه وشياطينه الداخلية. الانسان المؤمن، خاصةً، يعيشُ في ما وراء المعرفة، الايمان هو اللقاء مع الله في الظلام، وليس تحت الشمس الساطعة، وامام انظار الناس، أو كما يقال في وضح النهار، امام الملئ..!
أحد كبار فلاسفة القرن العشرين، نجده يتردد ترددا فلسفيّا يقاربُ شعور الصوفيين، ألا وهو فينغينتشاين، يعبّر عن تقديره للرمزية المسيحية، ويثور ضد محاولات حصرها وتحجيمها قائلا: “في رمزية المسيحية روعةً تفوقُ الوصف، واشعر بالتقزّز نحو من يسعه الى تحويلها الى بُنيةً، وذلك لان هناك أمورٌ لا يمكن تحديدها في كلماتٍ، هذه الأمور تتجلّى، إنها الوقائع الصوفية”.