نعاود تكملة مواضيعنا حول (الإنثروبولوجيا المسيحيّة) ، بعد إنقطاع بسبب سفري من سورية إلى كندا . وكما وعدتكم، في نهايات هذه السلسلة من المواضيع ، أن أطرحَ موضوعًا وهو : الخلق والتطوّر (الإيمان والعلم) ، والذي شغلَ بال الكثيرين .. وغالبًا ما ، يخلق التساؤلات والحيرات الكثيرة ؛ بين مؤيّد لها ، وبين معارض . ومن يقولُ بإنّها نظريّة ملحدة لا تمتّ بصلة لما ذُكرَ في الكتاب المقدّس ، وخاصّة سفر التكوين ، بالوحي الإلهيّ . ومن بين من نادى بذلك خاصّة ؛ التيّارات الأصوليّة في الكنيسة !
لن نحرق المراحل ، ولئن كانت هذه السلسلة ليست دراسات ٍ أكاديميّة كاملة ، وواسعة ؛ يكفي أن يكون هناكَ أشخاصًا ، تَعِبوا وقاموا ، بكلّ جرأة ، بوضعها أمامكم . وستكون هذه الحلقة أيضا ، متعدّدة الأفرع ؛ كي نعطي للموضوع حقّه الوافي ، إنْ لم نقل ، الكامل .
لنبدأ إذن ، والبداية ستكونُ بسؤال ٍ : هل تؤثّر الثقافة على الإيمان ( وهنا نقصدُ الإيمان المسيحيّ خاصّة ) ومعطياته ؟!
الثقافة والإيمان .. حاجز أم منطلق؟
لوك بلاتو ، عالمُ أحياء مسيحيّ بيولوجيّ يقولُ : في رواية للكاتب الفرنسي برنانوس ، يتحدّث لويس دولفريتي وهو صديق لكاهن من الريف ، بأنه ابتعد عن الإيمان . وأنّ الذي أفقدهُ إيمانه هو إتّساع ثقافته . ليس موقفه هذا مجرّد فرضيّة يكتبها روائيّ ، إذ يحدث غالبًا أن يقع تعارض بين " رجل العقل " ، و " رجل الإيمان " . واني أعرف غير تلميذ واحد يرجع رفضه للإيمان ، إلى نضجه الثقافيّ . حتى أنّ بعضا منهم مثل لويس دولفريتي ، كانوا في الماضي ، مسيحيّين " مقتنعين " ونشطين حتى اليوم الذي اكتشفوا فيه ، على أثر تجربة ثقافيّة لم يفلحوا في توفيقها مع الإيمان ، فنبذوا هذا الإيمان نبذهم للأكبال والقيود ( .... )، ويقول بلاتو أيضا : إذا كان مثل هذا العدد من الناس " يفقدون الإيمان " بإكتسابهم ثقافة عالية واسعة ، أفلا يكمنُ هنا الداءُ الأعظم ؟ أوليستْ كلّ جهود البشر المبذولة لمعرفة العالم المخلوق وفهمه ، عبثا وجديرةٌ بالسخريّة ؟
إذا ما ضاعَ هذا القدر من البشر بإسم مستواهم الثقافيّ والعلميّ ، فذلك لإنّ هذا المستوى ردئ . أو ينبغي ، والحالة هذه ، أن نرفض كلّ قيمة ثقافيّة ؟ لمَ لا ؟ ... يقول الربّ :" إذا شكّكتك عينيكَ .... " .
ممّ التشكّك ؟ إن لم يستطع البعض أن يدمجوا إنطلاقتهم الثقافيّة بإيمانهم ، أفلا يعني ذلك ، أنّ إيمانهم ذاك كان ضعيفا جدّا ؟ ألم يكونوا يؤمنون بإله ٍ متناه ٍ في الصغر ؟ سواء لضيق عقليّتهم أو لكسلهم – كسل الإيمان الذي لم يكافح – ألم يضعوا الله في مستواهم هم وكأنّه كائنٌ وهميّ ومألوف ؟ كائن مألوف كثوب ٍ نلبسه كلّ يوم . وعندما دقّت ساعة التغيير بقي الثوبُ المبذول ملتصقا بالجلد العتيق . فقد صنعوا لأنفسهم إلهًا على قياسهم ، وعندما كبر هذا القياس ، بدلا من أن يرتقوا بإيمانهم خارجًا عن حدودهم السابقة ، نراهم تركوا الله في الماضي .
جميعنا نقعُ " ضحيّة الإغراء " ، لإن نصنعَ لنا الله على مقياسنا وصورتنا المشوّهة ، وعلى أفكارنا ومبادئنا وعقليّتنا الجامدة . الإيمانُ لا يعيشُ إلاّ إذا نما وترعرع . وكلّما وسّعنا آفاقنا ، يبقى الله في الماوراء. وتستطيعُ الثقافة ، ويقدر العلم – إن كانا منفتحَين – أن يتقدّمان نحو الإيمان . الإيمانُ يعيش اليوم ها هنا ، وليس خارجًا عن المسافة والزمن والكون والتاريخ ، ليس هو مثاليّات حالمة لا منطقيّة ولا واقعيّة . إنه مدعوّ لإن يخترقَ ( كما يخترق نورُ الشمس الزجاج ويذهبُ لأماكنَ مظلمة ) كلّ ثقافة ٍ حتى الثقافة العلميّة المعاصرة . وكلامنا هذا ، ليس حجّة لإننا نريدُ أن نجمع العلم والإيمان ولا نناقضهما ! .
لذلك ، إيماننا يمكنه أن يرتكزَ على معارفنا العلميّة ، كما يمكنه أن يستند على كلّ ما نتلقّاه من الله . سنرى ذلك في الحلقات الآتية . فالأفكارُ لوحدها لا تُفهِمنا شيء ، الدهشةُ هي التي تكشف أمامنا أمورًا لا تخطر على بال ِ أحد .