1. نبوءة أشعيا التي سبقت مجيء المسيح بأكثر من ستماية سنة، تحقّقت في شخص يسوع. لقد ملأ الروح القدس بشريته، وأرسله الآب نبيّاً بامتياز، يعلن كلمة الله وهو نفسه الكلمة؛ وكاهناً بامتياز يقدّم ذبيحة العبادة وهو إيّاه الذبيحة؛ وملكاً بامتياز، يبني ملكوت الشركة بين الله والبشر وهو نفسه هذا الملكوت. فلمّا دخل المجمع يوم سبتٍ، قرأ النبوءة من أشعيا: "روح الربّ عليّ، مسحني وارسلني" (لو4: 18). وقال للحاضرين: "اليوم تمّت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم" (لو4: 21).
2. يسعدنا أن نحتفل معاً بهذه الليتورجيّا الإلهية، ونرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة بقائمقام كسروان الفتوح الاستاذ جوزف منصور، وبرعية عبدين وعلى رأسها كاهن الرعية الخوري لويس العلم والمسؤولين المدنيين. ونثني على التعاون القائم بين المجلس البلدي والرعية في إنجاز القاعة الرعوية، وفي تعزيز روح الوحدة والتعاون بين أبنائها. ونرحّب أيضًا بشبيبة كاريتاس لبنان في اختتام مخيّمكم الإنمائي في منطقة الشمال. وتزورون معالم الوادي المقدّس ولاسيما الكرسي البطريركي في دير سيدة قنوبين. إنّنا نشكركم على خدمة المحبة التي يقومون بها في مراكز كاريتاس – لبنان، ونتمنّى لهم النجاح في مشاريع حياتهم لخير الكنيسة والمجتمع.
3. إنّنا نجدّد التزامنا بمسحة الروح القدس التي نلناها بالمعمودية والميرون، وقد أعطتنا الكيان المسيحي على صورة يسوع المسيح، وأشركتنا في رسالته المثلّثة: النبوية والكهنوتية والملوكية. هذا الكيان المسيحي والرسالة يحدّدان معنى وجودنا كمسيحيّين في لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط، على صورة المسيح في ضوء نبوءة أشعيا التي تحققت في شخصه أولاً ثمّ في المؤمنين به.
المسيح كنبي، "يبشّر المساكين". يعلن إنجيل الخلاص، كلمةً هادية للعقول والضمائر. "المساكين" هم الناس السالكون في الظلمة: يحتاجون إلى نور الحقيقة في ظلمات الجهل والكذب والضلال؛ وإلى نور المحبة في ظلمات البغض والحقد والعنف والعداوة؛ وإلى نور العدالة في ظلمات الظلم والاستبداد والاستكبار؛ وإلى نور السلام في ظلمات الحرب والنزاع والإرهاب.
والمسيح ككاهن، "يحرّر الأسرى والمظلومين ويعيد البصر للعميان". إنّه الكاهن الذي افتدى بموته جميع الناس، وأقامهم لحياة جديدة بقيامته."الأسرى" هم الذين استُعبدوا للخطيئة والشَّر، وصاروا مقيَّدين بسلاسلها. "المظلومون" هم الذين طغت عليهم الأرواح الشريرة، والذين يستغلّهم آخرون ويحملونهم على ارتكاب الخطيئة والشرور. "العميان" هم الذين زاغت عقولهم عن نور الحقيقة، والذين خنقوا صوت الله في ضمائرهم. إن نعمة الفداء تشفي جميع هؤلاء. فدمُ المسيح المُراق على الصليب يغسل بالغفران قلوبهم وعقولهم وضمائرهم من الخطيئة ونتائجها.
والمسيح كملك، "يعلن زمناً مرضيّاً للربّ". هو زمن الروح القدس، زمن الحقيقة والمحبة والعدالة والحرية والسلام، هذه المعروفة بقيم ملكوت المسيح.
4. الكيان المسيحي، الذي نلناه بالمعمودية والميرون، أشركنا بوظائف المسيح، وجعل من جماعة المسيحيِّين، كما يقول بطرس الرسول، شعباً جديداً وهيكلاً روحيّاً وكهنوتيّاً مقدَّساً، من أجل أن يقدّموا بأعمالهم ذبائحَ روحيةً، ويعلنوا عظائم الله الذي دعاهم من الظلمة إلى النور المجيد (راجع 1 بطرس2: 4-10).
يعلّم القديس البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي: "العلمانيّون المؤمنون بالمسيح"، أن المسيحيين مدعوّون لممارسة مسيحية في شؤونهم العائلية والزمنية، لأن البشرى الإنجيلية تنير جميع الشؤون البشرية، لتجعلها أداة خير وسعادة وخلاص لجميع الناس.
فمشاركتهم في خدمة المسيح النبوية تؤهّلهم لقبول كلمة الإنجيل بالإيمان، وللشهادة لها بالأعمال، مندّدين بالشر بجرأة. وتدعوهم لتجسيد جدّة الإنجيل في حياتهم العائلية والاجتماعية.
ومشاركتهم في خدمة المسيح الكهنوتية تشجّعهم ليتّحدوا بذبيحته في القداس، ويقدّموا معها قرابين أعمالهم وصلواتهم ونشاطاتهم وحياتهم الزوجية والعائلية، وأشغالهم اليومية، وأفراحهم وأتعابهم.
ومشاركتهم في خدمة المسيح النبوية تدعوهم لخدمة ملكوت الله، ملكوت الحقيقة والمحبة، ملكوت العدالة والحرية والسلام (راجع العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 14).
هذه المشاركة بحكم المعمودية والميرون تُسمّى كهنوت المسيح العام، كما يشرحها القديس أغسطينوس بقوله: "كما أنّنا نُدعى جميعنا مسيحيين، بسبب مسحة الميرون السّرية، كذلك نُدعى جميعنا كهنة، لأنّنا جميعاً أعضاء في جسد المسيح الكاهن الأوحد" (راجع المرجع نفسه).
5. في الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" (الفقرة 13)، يدعو القديس البابا يوحنا بولس الثاني المسيحيِّين الذين يمارسون العمل السياسي، لأن يفعلوا ذلك ملتزمين بخدمة حقيقية للإنسان والمجتمع والوطن، بحكم معموديتهم ومسحة الميرون التي أشركتهم في وظيفة المسيح المثلّثة.
فإنّهم يشاركون في الوظيفة النبوية، عندمايجسّدون جدّة الإنجيل وفعاليته في حياتهم اليومية، العائلية والاجتماعية، وفي ممارسة العم ل الاقتصادي والاجتماعي والتشريعي والإداري. ويعملون على إحياء الرجاء بمستقبل أفضل لدى مواطنيهم وبالأخصّ لدى الشباب منهم، ويساهمون بفعالية في إجراء التحوّلات الضرورية لتحسين وضع المواطنين، وللبلوغ إلى حياة مشتركة أفضل.
ويشاركون في الوظيفة الكهنوتية، عندما يمارسون عملهم السياسي، في مختلف قطاعاته ومسؤولياته، جاعلين منه تسبيحًا للخالق، فيما هم يُكمّلون عمل الخلق على أساس من الحقيقة والخير والجمال؛ وعندما ينتصرون على مغريات المكاسب الخاصة والرشوة والمال. وبذلك يقدّسون عملهم ويتقدّسون به. فالكنيسة أعلنت قداسة عددٍ من رجال سياسة ودولة كبار.
ويشاركون في الوظيفة الملوكية، عندما يعملون على إحلال العدالة والسلام، ويقاومون الظلم والعنف؛ ويسعون إلى بناء الوحدة الوطنية ونبذ الانقسامات والخلافات؛ ويمارسون نشاطهم السياسي بنزاهة وتجرّد، وبالإلتزام في تأمين الخير العام الذي هو "مجمل أوضاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي تمكّن الأشخاص والجماعات من تحقيق ذواتهم تحقيقًا أفضل"(العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 42).
6. إنّنا نتطلّع إلى رجال سياسة عندنا في لبنان، يكونون ملتزمين، بحكم المعمودية والميرون، في ممارسة العمل السياسي بالروح البنوي والكهنوتي والملوكي، وفقًا لتعليم الكنيسة. فيعملون بروح التجرّد من المصالح الذاتية والمكاسب المادّية، ويُقاومون الظلم والاستبداد والتفرّد في القرارات الوطنية، ويبذلون كلّ جهد في سبيل الخير العام بصدق واستقامة وشجاعة.
نحن بحاجة إلى رجال سياسة مؤمنين حقًّا بالله، يَجمعون بين موجبات العمل السياسي والمبادئ الأخلاقيّة، ويناغمون بين الروحي والزمني، لأنّهم أصبحوا بالمعمودية خلقًا جديدًا. نحتاج إلى رجال سياسة يشهدون للقيم الإنجيلية والأخلاقية في نشاطهم السياسي، بحيث يتفانون في سبيل العدالة الاجتماعية والخير العام، ويتميّزون ببساطة العيش وحب الفقراء، مستنيرين بمبادئ تعليم الكنيسة الاجتماعي (راجع شرعة العمل السياسي، ص20-21).
7. نُصلّي إلى الله لكي يرسل لنا رجال سياسة مثل هؤلاء، لكي يُخرجوا بلادنا من أزماتها الخطيرة والخطرة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية، وفي طليعتها انتخابُ رئيسٍ للجمهورية، اليوم قبل الغد. فلا يمكن السير إلى الأمام من دون رئيس للبلاد، فهو قائد سفينتها، وضامن وحدتها الوطنية، والساهر على احترام الدستور واستقلال الدولة وسلامة أراضيها، والموقِّع لقوانينها. وهو الذي يعطي شرعية لمؤسساتها، ويبث فيها حيويّتها. نطالب الكتل السياسية والنيابية التفاوض للإجماع على الشخص الأنسب والأكفأ، آملين من دولة رئيس مجلس النواب قيادة هذه المسيرة التي لا تتحمّل أي تأجيل بعد تسع جلسات إنتخابية فاشلة. ولعلّ الأحداث المؤلمة والمدانة المتواصلة في منطقة عرسال وجرودها، وقد وقع ضحيتَها عددٌ من أفراد الجيش اللبناني المفدّى، تهزّ ضمائر المسؤولين السياسيّين والنواب، لكي يدركوا مخاطر ما يجري، ويتحمّلوا مسؤلياتهم الوطنية الخطيرة، ويقوموا بواجباتهم من أجل حماية المؤسسة العسكرية، وضبط الحدود. ألا تقتضي كل هذه الأوضاع الشاذّة في البلاد، والأحداث التي بدأت تعصف على أرضنا، أن يتنادى المسؤولون السياسيّون والمجتمع المدني إلى عقد مؤتمر وطني، يوحّد الرؤية والصفوف، من أجل حماية وطننا وشعبنا؟ فمن أجل شهدائنا العسكريين والمدنيين نصلّي كي يجعل الله من دمائهم الزكية صرخة حقٍّ في ضمير المسؤولين.
ونصلّي إلى الله أيضًا لكي يحرّك ضمائر قادة الدول فيعملوا بإخلاص وبمخافته على إحلال السلام في العراق، والحدّ من التقاتل الأخوي المذهبي، وعلى عودة المسيحيين إلى بيوتهم وأراضيهم في الموصل، ووضع حدّ لممارسات تنظيم "داعش" المنافية للإنسانية وللقوانين الدولية والأعراف الاجتماعية والمبادئ القرآنية.
ونصلّي من أجل السلام في سوريا، بإيقاف الحرب وعودة النازحين إلى مناطقهم منعًا لاستغلالهم من قبل المسلّحين غير الشرعيّين، وإيجاد حلٍّ للنّزاع الداخلي بالطرق السلمية، رحمةً بالمواطنين الآمنين، وحمايةً للتراث والحضارة.
ونصلّي من أجل سكان غزّة في فلسطين الجريحة، سائلين الله أن يُحرّك ضمائر المسؤولين عن الشرعية الدولية، لكي يوقفوا هذا التعدّي اللاإنساني والظالم من قبل إسرائيل على السكّان الآمنين، وهذا الهدم الشامل للبيوت والمؤسسات ودور العبادة. ينبغي وقف إطلاق النار فورًا وحلّ الخلاف بالتفاوض والحوار، وحلّ القضيّة الفلسطينية بكل مندرجاتها.
ويا رب، إنّنا بروح الاستغفار عن كلّ هذه التعديات والإساءات إليك وإلى رسومك ووصاياك، وإلى خلائقك التي أحببتها فخلقتها وافتدي تها وأعددت لها حياة سعيدة في هذه الدنيا والآخرة، نرفع نشيد المجد والتسبيح إليك، أيها الآب والابن والروح القدس، إلى الأبد، آمين.
* * *