إنّ الوحي لا يتناول حقائق من شأنها أن تُرضي فضول الناس عن الله . فالمسيحيّة ليست نظامًا فلسفيّا ، ولا يقفُ الوحي على مستوى تفسير الأشياء ، بل يضيء سيرنا إلى الله ، وهو أمرٌ يختلفُ كلّ الإختلاف .
يقول الأب واللاهوتيّ اللامع فرنسوا فاريون اليسوعيّ : إنه من واجبنا أن نفهم ، حقّ الفهم ، ما هو الفرق بين ( التفسير والمعنى)، لإنّ الإيمان لا يقفُ أبدًا على مستوى التفسير العلميّ الفلسفيّ ، بل يقفُ دائمًَا على مستوى المعنى ، معنى وجودنا ( ….. ) ، الخطأ الذي يقعُ فيه كثيرٌ من الناس ، هو إستعلام الدين عمّا يعود إلى العلم . لا يقول لكم الدين أنّ الماء يجلدُ في درجة الصفر ، أو أنّ مجموع زوايا المثلّث يساوي 180 درجة . أتصوّر رجلا ذا دماغ متفوّق حقّا واختصاصيّا في كثير من العلوم ، ومطّلعا على تفسير العالم إلى أقصى درجة في متناول الإنسان ، إن خانته امرأته ، فقد ينتحر لإنّ الحياة لم تعد لها معنى في نظره ، لإنّه فقد علّة وجوده .
رغم ذلك ، لا يمكنُ أبدًَا أن يناقض العلمُ الإيمانَ ، ولا الإيمان العلمَ ، ويكونا على تنافر ٍ ومشاحنة كبيرين . ليس العلمُ أمرًا يوضَع على سكّة معاكسة لسكّة الإيمان ، وكأنّهما يتضاربان ؛ بل هما ، وبالعكس ، سكّتان متوازيتان تسيران سويّة . ولا خوف على الإيمان بسبب العلم الكثير ، ومن جهة أخرى ، لا ينقُص من العِلم أمرٌ بسبب الروحانيّة ( فالله يكشفُ للخليقة الأمرين ) . لكن ، قد يكونُ هناكَ خوفٌ على إيمان ٍ صبيانيّ ساذج وأعمى ، لا يقفُ على رجليه أمام العلم ومكتشفاته ، لإنّه إيمانٌ أخرق لا يُواكِبُ الواقع والتاريخ وتغييرات الكون والإنسان . وكأنّ هذا الإيمان أو الوحي ، أمرٌ مُنزل من فوق رأس الإنسان ، والأخير لا حولَ له ولا حركة ، ولا حريّة فاعلة . وهذا الأمر ، ونقولها دائمًا ، لا يعني أنّ الإيمان ليس نعمة إلهيّة ؛ لكنّه ليس نعمة لا تتفاعلُ مع واقع الإنسان والطبيعة، لا بل أنّ ” النعمة تُكمّل الطبيعة ” ولا تناقضها .
الكتاب المقدّس لا يقصد في تعبيره أن يلقي علينا دروسًا في نشأة العالم كما يمكنُ معرفتها من الناحية الماديّة ، ولا في مختلف أنواع الكائنات الحيّة . بل يريد ، أوّل الأمر ، أن يقول لنا ؛ إنّ الله هو خالق العالم وخلاصه . لذلك ، ليس موضوعُ الإيمان أنّ الله خلق العالم في ستّة أيّام ، كما يصوّره الكتاب المقدّس ، ولا أنه خلق كلّ الأشياء في البدء كما هي عليه اليوم . في ذلك يقول أساقفة كنيسة ألمانية : لا تناقض في الأساس بين الإيمان ونظريّة التطوّر ، بل إنّ كلا التعبيرين يعطيان أجوبة عن أسئلة مختلفة , إنهما يقعان على صعيدين ويخضعان بالتالي لطرق معرفة مختلفة .
يقولُ جوئيل ده روسناي ( في أصل الحياة ) : “أعتقدُ أنّ مشكلة أصل الحياة ، إن أردنا أن نحترم ملابساتها العديدة ، وأن نتجنّب حصرها في مجال ٍ خاصّ واحد – سواء كان المجال علميّا أو فلسفيّا أو دينيّا – ينبغي أن تدرس في جانبها العلميّ والفلسفيّ والدينيّ في آن واحد ” .
وقد يبدو هذا الكلام ، يناقضُ ما هو متعارفٌ عليه ( وفي ما تقوله الكنيسة ) ، وما ذُكرَ أعلاه ؛ وهو أنّ كلّ مجال يدرسُ ما هو أمامه ، أي أنّ اللاهوت والإيمان يدرسان الــ ” لماذا ” ؟ ، والعلمُ يدرسُ الــ ” كيف ” ؟ وكلّ مجال ٍ يتطرّق لما هو من اختصاصه ولا دخل الواحد منهما بالآخر ! . ليس هذا هو المطلوب . فالتعليمُ المسيحيّ الكاثوليكيّ يصرّ دائمًا على العلاقة الوثيقة بين العلم والإيمان ، وأنّ الإيمان يقفُ موقفا منفتحًا تجاه معارف علوم الطبيعة وافتراضاتها . فعندما يقولُ التعليم الكاثوليكيّ (youcat) : إنّ اللاهوت لا يملكُ أيّ اختصاص في علم الطبيعة ، وعلم الطبيعة أيضا لا يملكُ اختصاصًا لاهوتيّا ، ليس معنى هذا ، أنّهما على خلاف وتناقض ! . لكن ، وإن فَضَلَ الإيمانُ العقل ، فمن غير الممكن أبدًا أن يكون بينهما خلافٌ حقيقيّ . لإنّ الله الواحد الذي يوحي بالأسرار ، ويهب الإيمان ، هو بعث في الروح البشريّ نور العقل . فمن غير الممكن أن ينكر الله ذاته ، وأن تناقض الحقيقةُ الحقيقة .