الخلق والتطوّر

الإنثروبولوجيا المسيحيّة (10)

Share this Entry

إنّ المؤمن المسيحيّ الذي يؤمن أنّ الله خلق العالم ، وهو لا يزالُ يخلق الإنسان ، يستطيعُ أن يجد في نظريّة داروين تفسيرًا علميّا مقبولا طالما بقي محصورًَا في المدى العلميّ . فالعلمُ ، هو نشاطٌ عقليّ ، يتميّز ويستقلّ عن الفلسفة والديانة ، ويؤسّس منهجيّته الخاصّة في التفاؤل بشأن الطبيعة ، ويستخدم قواعده الخاصّة . وهو بطرائقه الخاصّة وحريّة البحث التي يفترضها ، يُلزم اللاهوتيين بإن يتساءَلوا عن معاييرهم الخاصّة في تفسير الكتاب المقدّس وفقا لتصريح القدّيس يوحنا بولس الثاني في الجلسة العامّة للأكاديميّة الحبريّة في 31 تشرين الأوّل 1992 .

إحتفلَ العالمُ في سنة 2009 بمرور مئتي عام على  ولادة شارل داروين في 12 شباط 1809 . واحتفلَ أيضا بمرور مئة وخمسين عامًا في 24 تشرين الثاني على ظهور كتاب داروين ” أصلُ الأنواع ” سنة 1859 ، حيث عرض ” نظريّة النشوء والتطوّر بالإنتقاء الطبيعيّ ، أو صيانة الأعراق المحظوظة في الصراع لأجل الحياة ” .

وبموجب هذه النظريّة البيولوجيّة ، تنتج كلّ أشكال الحياة داخل سياق طبيعيّ زمنيّ ، يعملُ منذ ملايين السنين بدون أيّ وعي مصمّم أو مشروع عاقل ، وهو ما زال يعملُ بدون أيّ قصد ٍ عمديّ وأيّة غاية محدّدة ، وتحرّكه الصدفة . إنّ جميع الكائنات العضويّة الحيّة مترابطة فيما بينها بالقرابة ، وهي تنحدرُ كلّها من أصل طبيعيّ واحد مشترك ، وتضمّ في تسلسلها وتفرّعاتها وتعقيداتها النبات والحيوان والإنسان .

حَيرة المؤمن المسيحيّ :

من البديهيّ أن يحضر إلى ذهن المؤمن المسيحيّ هذا السؤال : ” هل يمكنني الجمع السليم بين إعلان فعل الإيمان وقبولي بنظريّة داروين البيولوجيّة ” ؟ . فبعد أن كان المؤمن التوحيديّ عمومًا ، والمسيحيّ خصوصًا ، يركن إلى تخيّله أصل الإنسان في الصور المرسومة في الفصول الآولى من سفر التكوين ، حيث يخلقُ الله آدم وحوّاء على صورته ومثاله ، ويسكنهما في الفردوس ، وبعد عصيانهما لأمره يطردهما من الجنّة ويَعدهُما بفردوس في نهاية الأزمنة ، راح الإنسان على مدى المئة والخمسين عامًا ، بعد صدور كتاب داروين ، وهو لا يزالُ حيّا ، يواجه بحَيرة ٍ وقلق ٍ السيطرة الثقافيّة التي تنشرها العلوم وتفرضها التقنيّات ، ويتصوّر ذاته بمثابة كائن طبيعيّ عضويّ ظهر في سياق تطوّر عشوائيّ لأجسام ٍ حيّة ، يغيبُ عنه التصميم العاقل والعناية الرحيمة . ويردّد بإشمئزاز ٍ وسخريّة القول المنسوب خطأ إلى داروين ” الإنسان ينحدر من القرد ” ، علمًا بإنه ليس في هذا القول ما يثيرُ أيّ حلم جميل ، بل بالعكس ، كلّ ما فيه يبعَث القلق والقرف .  

ويتساءل المؤمن المسيحيّ الذي يردّد يوميّا فعل الإيمان المنقول إليه بأمانة من القرن الرابع : ” أؤمن بإله واحد آب ضابط الكلّ خالق السماء والأرض ، كلّ ما يرى وما لا يرى …. ” ، هل إنّ إيمانه هذا يفرض عليه حتمًا أن يحافظ على تصوّر ثباتيّ للأنواع الحيّة ، ويرفض المقاربة العلميّة الداروينيّة للواقع البيولوجيّ ، مع كونها ما زالت تتوضّح علميّا وتسهم إسهامًا واسعًا في تطوّر الثقافة والحضارة ، حتّى صارت ” أكثر من فرضيّة ” حسب شهادة القديس يوحنا بولس الثاني ، بعد أن كان البابا بيوس الثاني عشر قد نعتها بمثابة ” فرضيّة تقتضي دراسة رصينة ” في منشوره  ( في الجنس البشريّ 1950 ) .

يقول البابا بنديكتوس السادس عشر : “أنّ الإيمان بالخلق هو أن نفهم ، في الإيمان ، العالم في صيرورته وتقدّمه بفضل العلم ، بمثابة عالم يتضمّن معنى ويصدر عن الروح الخالق ” . ويُحيّي المؤمن المسيحيّ ، مع البابا بنديكتوس ، التقدّم الذي وفرته العلوم الطبيعيّة ، التي فتحت مجالات كبيرة جدّا للعقل كانت لا تزالُ مقفلة ً حتى ذلك الوقت ، ونقلت إليه معارف جديدة .

وقال البابا أيضا : ” ليس المقصودُ الاختيار بين إيمان بخلق إلهيّ يلغي كليّا العلم وبين نظريّة التطوّر التي تخفي أماكن ضعف خاصّة ، ولا تريد البتّة  أن ترى الأسئلة التي تتجاوزُ مجالَ الإمكانات المنهجيّة في العلم الطبيعيّ ” .

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير