1. إنّنا في مسيرة الأجيال نُعطي الطوبى لمريم، في عيد انتقالها بالنفس والجسد إلى مجد السماء. وبانتقالها كانت ذروةُ عظائم الله فيها وبواسطتها. فهي عظائم نعظّم الله عليها، هاتفين معها: “تعظّم نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي” (لو1: 46-47). وفي الوقت عينه “نُعطي الطوبى لمريم، لأنّ القدير صنع فيها عظائم” (لو1: 46-47). إليها نرفع صلاتنا لكي تعضدنا من سمائها، نحن أبناءها وبناتها المسافرين في بحر هذا العالم، راجين أن تبلغ بنا إلى ميناء الخلاص.
2. يسعدنا أن نحتفل معاً بهذه الليتورجيّا الإلهيّة مُكرّمين أمّنا مريم العذراء، ومُمجّدين الله على عظائمه المتواصلة في تاريخ البشر. وإنّنا نقدّم الذبيحة الإلهية لراحة نفوس شهداء الجيش اللبناني وجميع القوى والأجهزة الأمنية الأخرى، الذين قدّموا ذواتهم ذبيحة فداء على مذبح الوطن، ولا سيّما الذين سقطوا في هذه الأيام الأخيرة في أحداث عرسال المشؤومة التي افتعلها تنظيمُ “داعش” ومعاونوه، راجين لهم إكليل المجد في السماء إلى جانب الشهداء القديسين. كما نقدّمها من أجل شفاء الجرحى، وتحرير العسكريين المحتجزين لدى تنظيم “داعش” وسواه من التنظيمات الأصولية الإرهابية، وعودتِهم إلى عائلاتهم وإلى رحاب المؤسسة العسكرية.
وفيما يشارك معنا في هذا الاحتفال ملايين من المشاهدين والمستمعين عبر وسائل الإعلام التي تنقله مشكورة، فإنّا نثني عليها وعلى هذه الخدمة التواصلية، ولاسيما على محطة تلفزيون MTV، التي نظّمت هذا الاحتفال بالتعاون مع قيادة الجيش، ومع جوقة الروح القدس – الكسليك التي تُحيي خدمة الأناشيد الليتورجية.
3. فإنّا نُحيّي العماد جان قهوجي قائد الجيش،وهيئةَ الأركان وقادةَ الألوية والضبّاطَ والجنود، ونعرب لهم عن دعمنا الكامل لهذه المؤسسة العسكرية، التي وحدها توفّر للّبنانيين أمنَهم وكرامتَهم، وللوطن سيادتَه وعزّتَه. فكما يتفانى الجيشُ اللبناني في حماية الوطن والمواطنين، نعتبر من واجب الشعب اللبناني وبخاصة رجال السياسة والحكم، أن يتفانَوا بدورهم في دعمه ومساندته والدفاع عنه بروح الامتنان والتقدير، لِما يبذلُ عناصرُه من جهود، وما يرتضون من تضحيات من أجل الخير العام. فبفضل هذه التضحيات وهذه الجهود انتصروا على تنظيم “داعش” وسائر التنظيمات الإرهابية، في عرسال، كما في معارك أخرى، فنجَّوا لبنان من مخطّطات ومؤامرات كارثية. ما يعني أنّ يد العناية الإلهية هي التي نصرتهم. وهذا يزيدنا يقيناً بأنّ أمّنا مريم العذراء، سيدةَ لبنان، هي التي نجّت بحمايتها وطنَنا الحبيب؛ وقد استجابت صلاةَ الجميع بتكريس لبنان وبلدان الشرق الأوسط لقلبها الطاهر. وكم نتمنّى أن يقتديَ رجالُ السياسة ونوّابُ الأمّة برجال الجيش في التضحيات والتفاني والتجرّد من أجل لبنان ومؤسساته الدستورية، بعيداً عن المصالح الصغيرة والفئوية. فنرجو أن يتفانى السادة النواب بهذه الروح، ويبادروا إلى القيام بواجبهم الدستوري، فينتخبوا رئيسًا للجمهوريّة، لكي ينتظم عملُ المجلس النيابي ومجلس الوزراء، وتعود الحياة الطبيعية إلى الجسم اللبناني.
4. وإنّا نحيّي بيننا أهالي شهداء جيشنا المفدّى، فنعرب لهم عن تعازينا الحارّة، وعن قربنا منهم بالصلاة والعزاء، وعن مشاركتنا إيّاهم في الأسى والألم. لكنّنا بروح الإيمان ندعوهم ليجعلوا من شهدائهم ذبيحة فداء، يضمّونها إلى ذبيحة الفادي الإلهي، من أجل لبنان وشعبه، سائلين الله أن يمسّ قلوب الإرهابيّين الأصوليين التكفيريّين وضمائرهم ويعيدَ إليهم إنسانيتَهم ويحرّرَهم من سلطان الشر المتحكّم فيهم، والذي يفقدهم صورة الله، التي خُلقوا أصلاً على مثالها. أجل، قدِّموا شهداءكم، أزواجاً وآباء وإخوة وأنسباء، ذبيحةَ تعويض وتكفير عن كلّ الشرور التي تُرتكب في الحروب والنزاعات، حيث تُدمَّر مدن، ويُقتل أبرياء، وتُشرّد عائلات. قدِّموهم ذبيحة تشفّع، من أجل السلام في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، ومن أجل تحريك ضمائر رؤساء الدول ومنظّمة الأمم المتّحدة ومجلس الأمن والمحكمة الدولية الجنائية، لكي يتحمّلوا مسؤولية السلام بين الدول، والقضاء على التنظيمات الأصولية والإرهابية، وحماية حقوق المواطنين، والعمل الدؤوب على عودة المشردين والمطرودين والنازحين إلى بيوتهم وممتلكاتهم.
وإنّا نشكر ونثني على كافة المبادرات الخارجية والداخلية التي جاءت لتدعم الجيش اللبناني، إيمانًا منها بدوره كعمود فقري للاستقرار الوطني؛ ونشجّع على اتّساعها واستمرارها، آملين بانخراط المزيد في صفوفه من شبابنا المؤمن برسالة لبنان وميثاقيّته.
يا أهالي شهداء الجيش الأحباء، ضعوا على رؤوس شهدائكم أكاليل المجد، واعتزّوا بأنّكم تسخون بدمائهم في سبيل الوطن، كياناً وشعباً ومؤسسات. الله وحده يعرف كيف يكفكف دموعكم ويخاطب قلوبكم ويعزّيكم. فلتهدكم إليه وإلى حنانه ورحمته أمُّنا وسيدتُنا مريم العذراء، شريكةُ الفداء في آلام ابنها يسوع وموته، وشريكتُه في مجد السماء.
4. “ها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال، لأنّ القدير صنع بي عظائم” (لو1: 48-49)
بلغت عظائمُ الله ذروتها برفع مريم بنفسها وجسدها إلى مجد السماء. في إعلان هذه العقيدة الإيمانية بلسان المكرّم البابا بيوس الثاني عشر في أول تشرين الثاني سنة 1950، انكشفت عظائمُ الله التي هيّأت انتقالَ مريم بالنفس والجس
د إلى السماء. فأعلن: “إنّ مريم البريئة من دنس الخطيئة الأصلية والشخصية، وأمَّ الإله، الدائمةَ البتولية، وشريكةَ ابنها في آلام الفداء، بعد نهاية حياتها على الأرض، نُقلت بنفسها وجسدها إلى المجد السماوي”.
5. أربع عظائم كشفها كلام البابا بيوس الثاني عشر:
الأولى، عصمة مريم من خطيئة أبوينا الأوّلَين، آدم وحواء، المعروفة بالخطيئة الأصلية التي نرثها، والتي تُمحى منّا بالمعمودية والميرون. عصمها الله منها بتدخّلٍ إلهي في اللحظة الأولى للحبل بها في حشى أمّها القديسة حنه زوجةِ يواكيم، كما يُحبل بكلّ كائن بشري، مستبقاً بذلك استحقاقات مَن سيولد منها إنساناً، ابنُ الله يسوع المسيح، فادي الإنسان ومخلّص العالم. وهذه العقيدة الإيمانية أي الحبل بمريم من دون دنس، أعلنها الطوباوي البابا بيوس التاسع في 8 كانون الأوّل 1854. تعلّمنا هذه العقيدة أن كلّ كائن بشري يتكوّن في حشا أمّ هو معروف من الله ومُراد، إذ ينفخ فيه روحاً من روحه، وتبقى عينُه عليه من أجل خلاصه، ومن أجل اكتشاف دوره في تاريخ الخلاص، عبر تاريخ البشر. هذا يعني أن حياة كلِّ إنسان هي مقدّسة، وأنّ الله هو وحدَه سيّدُها المطلق. وهو وحدَه سيّدُ الحياة والموت. فمن يعتدي على الإنسان، أيِّ إنسان، إنما يعتدي على الله.
ومريم عصمت نفسها، بقدرة النعمة الإلهية، من كلّ خطيئة شخصية. وهي عقيدة أعلنها المجمع التريدنتيني المنعقد ما بين سنة 1545 و1563.
يليق إذن بمريم، التي لم تتدنّس بأي خطيئة أصلية وشخصية، أن لا يرى جسدها فساداً، فرُفعت بالنفس والجسد إلى مجد السماء.
6. العظمة الثانية في مريم هي أمومتُها للإله المتجسّد، يسوعَ المسيح. لقد ولج الإله، ابنُ الله الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس، حشى مريم الطاهر، وأصبح جنيناً بشرياً بقوّة الروح القدس، لكي يُعيد للإنسان بهاءَ إنسانيته، ولكي يكلّمَ اللهُ الإنسان بالشكل المباشر، ويحبَّه بقلب إنسان، ويقولَ له الحقيقة بلسان إنسان، ولكي يفتديَ الجنس البشري بآلامه وموته، ولكي تولدَ منه البشريةُ الجديدة، مثلما تولد السنبلة من حبة القمح المزروعة في الأرض الطيبة. إنّ عقيدة مريم أمِّ الإله بالجسد البشري”، وقد أعلنها مجمع أفسس سنة 431، تعلّمنا أن مريم جُعلت هيكل الإله المتجسّد وسكنى الله الثالوث، فهي ابنة الآب وأمّ الابن، وعروسة الروح القدس. وهذه دعوة لكلّ واحد وواحدة منّا ليكون هيكلاً مقدّساً لله، بيسوع المسيح، بحيث نقول مع بولس الرسول: “أنا أحيا، لا أنا! بل المسيح هو الذي يحيا فيّ” (غل2: 20).
7. العظمة الثالثة في مريم هي أنّها أمٌّ وعذراء، وقد تمّت فيها نبوءة أشعيا: “ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابناً يُدعى عمّانوئيل – أي الله معنا” (أش 7: 14). إنّها أمٌّ بتول، وبتوليتها دائمة، قبل الحبل وأثناءه وبعده. عقيدة إيمانية أعلنها المجمع اللاتراني سنة 1649. إنها مثال المكرّسين والمكرّسات في الكنيسة، الذين دُعوا إلى المحبة الكاملة على خطى المسيح وأمّه مريم، معتنقين بنذر رسمي فضيلة البتولية المكرّسة لملكوت الله ولخدمة الكنيسة.
8. العظمة الرابعة في مريم هي أنّها جُعلت شريكة ابنها في الفداء، هي التي رافقته في جميع مراحل حياته، بكلمة “نعم” عبَّرت فيها عن تكرّسها الكامل لتصميم الله الخلاصي، في حلوه ومرّه. لقد بدأت مسيرة الإيمان والرجاء والحب بكلمة “نعم” يوم البشارة عندما أعلمها الملاك جبرائيل بأنها ستكون أم الإله المتجسّد، وقالتها “نعم” على أقدام الصليب. في الأولى أصبحت أمّ يسوع التاريخي، وفي الثانية أمّ المسيح السرّيّ، الذي هو الكنيسة. هذه عقيدة تعلّمنا أن نجعل من آلامنا الجسدية والمعنوية والروحية مشاركة في آلام المسيح، وتحويلها إلى “آلام مخاض“، بحيث تولد منها حياةٌ جديدة وواقع جديد. كما تعلّمنا أن نقبل كلّ آلامنا، أكانت من الداخل أم من الخارج، ونعطيَها قيمة خلاصيّة، فنردّد: “مع آلامك يا يسوع”، ونتبنّى كلمة بولس الرسول: “إنّي أكمّل في جسدي ما نقص من آلام المسيح من أجل الكنيسة”(كول 1: 24).
وبما أنَّ مريم شريكةُ ابنها في الفداء، فإنّها شريكةٌ أيضًا في وساطة الخلاص، بحيث أنّها تساهم في ولادة الحياة الفائقة الطبيعة في كل مؤمن ومؤمنة، بواسطة أسرار الخلاص.
9. فيا مريم أمّنا، إنّنا نعطيكِ الطوبى لكلّ هذه العظائم الإلهية التي حقّقها الله فيكِ. فإنّنا نمجّده ونشكره لأنه جعلكِ تحفة الخلق والفداء ومثالاً للبشرية جمعاء، وأشرككِ في مجد ابنكِ، ملكِ الملوك وسيّدِ السادة، إذ توّجك سلطانة على السماء والأرض. نسألك أن تحتضني شهداءنا مثلما احتضنتِ ابنَك يسوع المنزل عن الصليب، وقد مات فداءً عن الجنس البشري، لكي يكونَ استشهادهم فداءً عن وطننا وشعبنا. وأهّلينا يا مريم أن نعظّم الله معكِ بحياة بارّة، نسير فيها على الطريق المؤدي إليه، وقد رسمتيه أنتِ ببطولة إيمانكِ والرجاء والمحبة. فنستحق أن نرفع من قلوبنا النقية نشيد المجد والتسبيح للثالوث الذي اختاركِ، الآب والابن والروح القد، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *