البطريرك الراعي يتحدث عن زيارته إلى إربيل…

في عظته يوم الأحد 24 آب 2014

Share this Entry

1. هو الربُّ يسوع يجول في القرى والمدن، وصولاً إلى منطقة الكنعانيين في ساحل صور وصيدا، ولقاؤه بالمرأة الكنعانيّة المميزّة بإيمانها الواعي والصامد، وشفاء ابنتها المريضة برحمته اللامتناهية، يعلّمنا ثقافةَ التواصلِ والتلاقي. إيمانٌ – ثقة من قبل المرأة ورحمةٌ لامتناهية من قبل المسيح الإله؛ وهو ما زال يواصل تجواله في كلّ مكان، بواسطة خدمة الكنيسة التي تعلن إنجيله وتكرز بشخصه وتوزّع نعمة الأسرار، وتنشر ثقافة المحبة. هدفها واحد هو اللقاء الشخصي مع المسيح، اللقاء الحقيقي الذي يحوّل مجرى حياة مَن يلتقيه، كما جرى مع المرأة الكنعانيّة، عندما وصل يسوع إلى نواحي صور وصيدا (راجع متى 15: 21-22).

2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيّا الإلهية، وهو الأحد الأخير من فترة الصيف. فنشكر الله على هذين الشهرين اللذين قضيناهما في مقرّنا الصيفي، والتقينا العديد من كهنة النيابة البطريركية ورهبانها وراهباتها ومؤمنيها. إنّني أرحّب بكم جميعًا وبخاصّة برعية السيدة بقاعكفرافأحيي أبناءها وبناتها على رأسهم كاهن الرعية الخوري ميلاد مخلوف، ورئيس المجلس البلدي ورئيس اتحاد بلديات قضاء بشري السيد إيلي مخلوف ومختار البلدة، وجوقة الرعية التي تحيي أناشيد القداس. وأرحّب بالفريق الرسولي في هذه النيابة البطريركية وبمرشده الخوري طوني آغا، وسائر الأعضاء من كهنة وراهبات وعلمانيّين. كما أحيي عائلة المرحومة الدكتوره ميراي حنّا رومانوس التي ودّعناها معهم منذ شهر. إننا نجدّد التعازي لزوجها وابنتها وابنها وأشقّائها وشقيقتَيها وعائلاتهم، ونذكرها بالصلاة ملتمسين الراحة لنفسها.

ونرحّب بمركز الثقافة الدينية في دير سيدة طاميش للرهبانية اللبنانية المارونية، مع إعلاميي تلي لوميار، ويحملون ورقة عمل في خدمة الديموقرطية في لبنان ومبادرات تجاه مسيحيي العراق. ونُحيّي معالي وزير الداخلية السابق العميد مروان شربل، والمسؤول عن القوات اللبنانية في الولايات المتحدة الأميركية السيد جوزف جبيلي.

3. إن الرب يسوع بتجواله على مختلف المناطق وبآيات الشفاء، واليوم بشفاء إبنة المرأة الكنعانيّة، يعلّمنا ثقافة التواصل واللقاء مع الجميع، على تنوّع انتماءاتهم الدينية والعرقية والثقافية. هذه هي رسالة الكنيسة: أن تتواصل مع جميع الناس والفئات، ومع إنسان اليوم بكل همومه وانشغالاته وتساؤلاته، لكي تجتذب الجميع إلى المسيح.

أفضل وسيلة للتواصل هي الحوار الذي ينطلق من الاقتناع بأنّ لدى الآخر المختلف شيئًا صالحًا يقوله، فيفسحُ له في المجال لإبداء وجهة نظره ومقترحاته والحلول. الحوار لا يعني التخلّي عن الرأي والنظرة إلى الأمور، بل يعني التخلّي عن الادّعاء بأنهما الوحيدان والمطلقان.

هذه هي مشكلة مجتمعنا اللبناني اليوم: التشبّثُ بالرأي الشخصي والنظرةِ الشخصية كأمرٍ مُطلق، ودعوةُ الآخرِ إلى السير بهما. هذا الواقع أوصل الكتلَ السياسية والنيابية الى مأزقِ عدم انتخاب رئيسٍ للجمهورية، وتعطيلِ النصاب في الجلسات الانتخابية. ينبغي أن يتّصفَ الرأيُ والنظرةُ بالنسبية، وأن يتحررَّ صاحبُها من مصلحته الخاصة ومن ذاته، لكي يتكامل مع الرأي الآخر والنظرةِ الأخرى المختلفتَين، فيُصار إلى صوغ الرأي الذي يجمع والنظرةِ التي توحّد، والقرارِ الذي يخدم الخيرَ العام. والآن، بعد خمسةِ أشهر وعشرِ جلسات انتخابية فاشلة، الأمرُ الذي يطعن في الصميم كرامةَ المجلس النيابي ولبنان وشعبَه، فإنّا ندعو الكتل السياسية والنيابية الى مبادرات شجاعة قبل جلسة الثاني من أيلول المقبل، تبدأ بالتخلي عمّا يعيق اكتمال النصاب وانتخابِ الرئيس. والكتلُ أدرى بهذه العوائق الشخصية والفئوية.

4. في لقائه مع المرأة الكنعانيّة، بدا يسوع قاسيًا في طريقة تواصله، كاشفًا بذلك عن أسلوبه الخاص. نعتقد أنّه أراد أن يُظهر للجمع المرافق عظمةَ إيمان تلك المرأة، وهي كنعانية – فينيقيّة لا يهوديّة. عرف الربُّ إيمانها المميّز من مناداتها باسمه البيبلي، بحسب نبوءات الأنبياء غير الكنعانيين: “إرحمني يا سيدي يا ابن داود، إنّ ابنتي يعذّبها شيطانٌ ويُضنيها“(متى 15: 22). أدركت المرأةُ بإيمانها العفوي أن يسوعَ الناصري هو المسيح، إبنُ داود، المنتظر، الذي تنبّأ عنه أشعيا بأنّه يفتح عيون العميان وآذان الصمّ ويشفي المرضى(راجع الفصل 53)، فآمنت به حاملاً رحمة الله، وأتت كلماتُها منتقاةٍ حقًا.

أراد يسوع أن يمتحن إيمانها وأن يكشفه للحاضرين ويمتدحه أمامهم. فتصرّف معها بالشكل الذي سمعناه، وكان مُسيئًا. بدأ بعدم الاكتراث لها، ثمَّ ميَّز بشكل عنصري بينها وبين اليهود، إلى أن وجّه إليها كلامًا جارحًا للغاية، بقوله: “لا يحسن أن يؤخذ خبزُ البنين ويُرمى إلى جراء الكلاب”(متى 15: 26). أما هي، وبفضل إيمانها الواعي والصامد والمحب، أجابت بكلام شديد التهذيب والتواضع: “نعم يا سيدي، وجراءُ الكلاب تأكل الفتات المتساقط عن مائدة أسيادها”(متى 15: 27). جوابٌ إيمانيٌ صافٍ كان يتوقّعه يسوع. فامتدح إيمانها وقال: “عظيم إيمانك، أيتها المرأة! فليكن لكِ ما تريدين“(متى 15: 28).

5. تصرُّف يسوع القاسي مع إيمان المرأة يُسمّى “محنةَ الإيمان“. فالإيمان الحقيقي والسليم هو الذي يُمتحن بالصعوبات: م
رض، فشل، فقر، صعوبات زوجية وعائلية، حرب، تهجير، نزوح، اعتداء، وفاة شخص عزيز… الإيمان يكبر ويصمد وينمو عبر صليب المحن والمصاعب. يُشبه إهمالُ يسوع للمرأة الكنعانية صمتَ الله الذي نناجيه بالصلاة، من وسط المحنة، وكأنه غائب، لا يسمع، ولا يشعر. فلا بدّ من الثبات على الإيمان بوطيد الرجاء بأن الله يتدخل ساعة يشاء، وبأن تدخّله يؤول دائماً لخير الذين يتّقونه (راجع روم 8: 28).

6. محنة الإيمان يعيشها المرضى والمظلومون والنازحون والمهجّرون، وبخاصة مسيحيّو الموصل وبلداتِ وقرى سهل نينوى في العراق، الذين طردهم تنظيم “داعش” المعروف بالدولة الإسلامية، وعددُهم مئة وخمسون ألفًا. لقد زرناهم الأربعاء الماضي ، كما تعلمون، مع عدد من البطاركة، باسم بطاركة الشرق الكاثوليك والأرثوذكس، في مدينة أربيل بضاحيتها عين كاوا المسيحية، في إقليم كردستان. هناك التقيناهم حيث يعيشون باكتظاظٍ في الكنائس وداخل قاعاتها وتحت الخيم في ساحاتها وبالقرب منها، وفي هياكل أبنية غير مكتملة. ورأينا الاساقفة والكهنة والاكليريكيين والراهبات والمتطوعين يعيشون معهم ويخدمونهم بشكل منظم في أكلهم وشربهم ومداواة مرضاهم. شعبٌ يقبل واقعه بالألم والصبر والصلاة، وثقتُهم كلُّها بالكنيسة كجسر خلاص وعودةٍ الى بيوتهم وممتلكاتهم. والتقينا المسؤول عن الإيزيديّين وقدمنا مساعدة مادية لهم، وقد قتل تنظيم داعش العديدَ منهم، وسبى نساءهم. وما زال معظمُهم يعيشون في العراء في جبل سنجار.

7. أعربنا في زيارتنا عن تضامننا الكامل مع الجميع، روحيًا ومعنويًا وماديًا؛ والتقينا  رئيس إقليم كردستان السيد مسعود البارزاني،ورئيس الحكومة السيد نجرفان البارزاني، فشكرناهما على حسن الاستقبال للنّازحيين، وقدّمنا لهم مطالبَهم ونحن على أبواب الشتاء والمدارس والجامعات. وأطلقنا نداءً الى الأسرة الدولية نجدِّده معكم اليوم من هنا، ضامّين صوتنا الى صوت قداسة البابا فرنسيس وهو:

1) أن تتعاون الأسرة الدوليّة مع السلطات العراقية والكردية وجيش إقليم كردستان “البشمركة”، بتغطية جويّة وسلاح متطوّر، من أجل تحرير الموصل وآبار النفط وبلدات وقرى سهل نينوى من سيطرة تنظيم داعش – الدولة الاسلامية والتنظيمات الإرهابية التكفيريّة المماثلة.

2) أن تصدر عن منظّمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن قرارات تدين بالمطلق هذه التنظيمات الإرهابية التكفيرية، وتوجب على الدول التي تموّلها وتمدّها بالمال والسلاح الكفَّ عن هذا العمل المُدان، تحت طائلة المسؤولية، وتعيد المسيحيّين والإيزيديّين والأقلّيّات إلى أراضيهم وممتلكاتهم، وتحمي وجودَهم الأمني وحقوقَهم العائدة لهم بحكم المواطَنة.

3) أن تتولّى منظّمة الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانيّة إعادة ترميم البيوت والكنائس والمؤسّسات التي خرّبها تنظيمُ “داعش” وأعوانُه، لكي يتمكّن المسيحيّون وسواهم من العودة إليها والعيشِ فيها بكرامة؛ وإقامةِ مشاريعَ إنمائيّة توفّر فرص عمل لهم، فلا يضطرّون إلى الهجرة والتخلّي عن ثقافتهم وحضارتهم ورسالتهم المسيحية التي يحتاج إليها العالمُ العربي اليوم أكثر من أي يومٍ مضى. لذلك ينبغي على الدول الصديقة أن تحافظ على الوجود المسيحي في العراق وسوريا وفلسطين.

8. أمّا ما أوصانا به مسيحيّو العراق، وقد عبّروا عن همّهم، هو: المحافظة على لبنان في عيشه المشترك المتوازن والمتساوي بين المسيحيين والمسلمين، وفي صيغته الميثاقيّة القائمة على التنوّع في الوحدة، كنموذج للبلدان العربية، وكضمانة للوجود المسيحي فيها. وكم شدّدوا علينا العمل مع الكتلِ السياسيّة والنواب على انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، يضمنُ وحدة لبنان، ويعيدُ الحيويّة إلى مؤسّساته الدستوريّة. فهل يشعر هؤلاء المسؤولون عندنا بخطورة الحالة الاقتصادية والمعيشية والأمنية الآخذة في التردّي والتي تنذر بأخطر العواقب بسبب شلل المؤسّسات العامّة وحالة الإهمال واللامسؤوليّة من قبل المسؤولين السياسيّين؟

إنّنا نصلّي لكي يمسّ اللهُ ضمائرَ المسؤولين السياسيّين ونوابِ الأمّة، فيدركوا جسامةَ الأمور وخطورتَها. ونلتمسُ نعمةَ الإيمان، الذي تحلّت به المرأةُ الكنعانيّة لكي نلجأ كلُّنا إلى المسيح طالبين الشفاء من أمراضنا الروحيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، رافعين نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.

Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير