قبل أن تحط الطائرة على مطار اربيل، تعرف، ما أن تنظر من نافذة الطائرة، أن ما ينتظرك ليس بسهل…
مساحات شاسعة من أرض صحراوية، قاسية، لا اشجار ترطب جفافها، ولا خضار يليّن قساوتها. تعرف ما يعانيه آلاف تركوا كل شيء ورحلوا، ليحافظوا على كرامة ويصونوا، قبل حياتهم، إيمانهم.
حرّ مرتفع، أرض غريبة، حياة في خيم ومدارس، في النفوس حسرة، في الحناجر غصّة، في العيون قلقٌ من شتاء يقترب، ومن المجهول.
في الطريق نحو البيت ترى اكواماً من خيام، ثياب معلّقة على السياج، جماعات من فتية تلعب وشبانا مجتمعين يتحادثون.
وضعت الحقيبة وانطلقت الى كنيسة مار يوسف في عين كاوا، الكنيسة مكتظة، وحولها نُصبت الخيام. على كل خيمة رقم. عائلة تجلس على مقاعد مدرسة، بادروني السلام “بشينا أبونا” (سلام ابونا)، عرفتهم كلدان. ربما فقدوا كل شئ، ولكنهم لم يفقدوا كرامتهم، ولا حسن الاستقبال. بلحظة جعلوني واحدا منهم. سارة بالكاد ابنة السبع سنوات جلبت لي كأس شاي، اخوها الاصغر، ابن ثلاث سنوات، قدم لي من كيس “شيبس” كان يأكله. لم يحتج الى والدته تقول له “سلم على الابونا”، شعب مضياف، حتى الطفل فيهم يقاسمك القليل الذي يملك بطيبة خاطر. بلحظ احاط بي الاطفال، واحد يخبرني عن كلبه، وآخر يسأل عن اسمي، بتهذيب قلّ نظيره. بأقل من عشر دقائق، أشعروني أنهم عائلتي.
خيمة صغيرة تسكن فيها اربع عائلات، بخبروني عن صعوبة التمدد والاسترخاء والمشكلة الاكبر هي عدم توفر الماء، لا للشرب ولا للاستعمال. خرجوا من بيوتهم بما يلبسون، ولا يزالون يحاولون الاستمرار، لا لباس، شح في المياه، “طعام لا ينقص، الحمدلله” يقولون، وحين نراهم ممتنين لله على القليل الذي يأكلونه، نخجل من انفسنا، كم نشكو الله كل يوم على امور نظنها مشاكل.
“الادوية وحليب الاطفال امور ضرورية، الملابس حاجة ماسة” تقول راهبة جاءت مع جماعتها من قراقوش. شعور بالغضب والقهر يتفجر دموعاً، لانها لا تقدر ان تصنع شيئاً لاخوتها في محنتهم، ولكنها تشاركهم حالتهم، وهذه اسمى خدمة.
نسوة امام مزار سيدة لورد يشعلون الشموع ويصلون، امراة تجلس على حجر في ساحة الكنيسة، تخبرني انها وحيدة، يتيمة ليس لها أحد. تشكر الرب على هذا الآن، فهي لن تخاف ان ترى اولادها يجوعون او يمرضون، او يعانون الخطر. حتى ألم الوحدة يصبح نعمة في ظرف مثل هذا.
عدت ادراجي على امل العودة صباحاً. فالوقت ليس وقت شكوى، هو وقت عمل، فالاباء والاخوة والراهبات الذين اعرفهم، غارقون كلهم في خدمة شعبهم، رعاياهم صارت تسكن الخيم، يقلقون عليهم من شتاء يقترب، يخافون على سنتهم الدراسية، وعلى ثباتهم في ايمانهم برجاء ان هذا “الخروج” لا بد ان ينتهي، وعلّ نهايته تكون قريبة، رغم ان لا ملامح حلّ في الافق، في وسط لا مبالاة الكون بأسره.