1- عالمنا المعاصر: بين العولمة التسويقية والتيارات القبلية الحديثة
1-1. الإنسان والزمان: إن الإنسان كائن تاريخي بالأساس. هذا ما أثبته الكثير من الفلاسفة على اختلاف أزمانهم وأمكانهم. فالإنسان كائن يتواجد في وقت ما من الزمان، وفيه يبحث عن معنى وجوده الوقتي هذا، ومن وراء ذلك عن معنى الوجود الكلي، وهذان البحثان مرتبطان لا مفر. عبر الزمان يسعى الإنسان لتحقيق ذاته، أي لـ”أنسنته” (humanization) الأكثرِ كمالاً وثباتًا. وذلك لأن الإنسان ليس كائنًا قُدِّرت عليه سلفًا كيفيةُ تصرفاته بحيث لا خَيار له فيها. إنما الإنسان هو الكائن الذي وُهِبَ القدرة على التصرف بذاته بحرية أصيلة، فبإمكانه دائمًا الخَيار بين تحقيق ذاته أو طَمْسها، بين عمل الخير أو عمل الشر، بين الخلاص والهلاك، بين الحياة والموت. هذه هي الأبعاد الدرامية للوجود البشري. فمن هنا يبدو مدى أهمية معرفة الزمان الذي نحن فيه.
1-2: العولَمة التسويقية. إن الحقبة الزمانية التي دخلناها منذ وقت تُعرَف بـ”عصر العولَمة” (globalization)، وهي تهدف إلى توحيد البشرية في”قرية عالمية موحدة”. إلا أن هناك في هذه العولَمة مخاطرَ جسيمة لا بد من الإشارة إليها. وأول هذه المخاطر هو إنشاء حركة تسويقية عارمة هي “التسويقية العالمية” (global marketing) التي قد تؤدي إلى إلغاء كل المميِّزات الثقافية والاجتماعية والدينية التي ظلت قرونًا طويلة السمات الأصلية لمختلف شعوب العالم عبر التاريخ. والواقع أن هذه “التسويقية العالمية” تفرض على سكان المسكونــة بأجــمعهم تكـتُّـلاً ثـقافيًّا (cultural massification) عالميًّا خطيرًا للغاية، قد يُؤدِّي إلى فقدان الحكمة الإنسانية الأصلية التي ظلت عصَب حياة البشر عبر تاريخهم الطويل. ومن ثم، نلاحظ أن إنسانَنا المعولَم يجد ذاته على وشك السقوط في هوة الفردية المطلقة، مع الـتشظِّي بل التذرِّي الكلي للقيم الإنسانية الأساسية من أخلاقيةٍ ودينيةٍ، مما قد يؤدي إلى تلاشي هويته الإنسانية (human identity) كـ”إنسان”. فهذا الإنسانُ المعولَم، الفرديُّ والمتفرد، يصير أكثر فأكثر مجرد آلة روبوتية للإنتاج والاستهلاك في خدمة تلك “التسويقية العالمية” لا غير، وكأنه جزءٌ من “تركيب روبوتي أكبر” يسيطر على الكل، وهو تلك العولمة التسويقية ومصالحها الكبرى.
1-3. التيارات القبلية الحديثة: إلى جانب ذلك، فهناك في قريتنا العالمية صحوة واسعة لما يُسمَّى بـ”القبليات الحديثة (new tribalisms)، أو “الأصوليات الحديثة” من عِرْقِيَّةٍ وثقافية ودينية… إلخ، وذلك ردًّا على ذلك التكتل الثقافي العالمي. فهذه الحركات المتعصبة أيضًا قد تهدِّد التعايش السلمي بين البشر على مستوى المسكونة كلها، وذلك من خلال نشر الكثير من العنف والتطرف والأعمال العدائية القاتلة التي تندرج تحت كافة مظاهر الإرهاب في شتى أنحاء الكوكب الأرضي، مما يُمثل مخاطر جسيمة لبقاء الكائن البشري على ما هو عليه من الذاتية الإنسانية.
هذه هي المخاطر الوجودية التي تحيط بنا كلنا في عالمنا المُعولَم، شرقيين كنا أو غربيين، مؤمنين أو غير مؤمنين. فالقضية هنا قضية “الإنسانية” في المقام الأول، فلا مفرَّ منها.
2- التعددية: الهوية والغيرية، الأنا والآخر
وإذا أمعنَّا النظر في تلك الحركات الحديثة من تسويقية وقبلية نجد هناك خطًّا مشتركًا بينها، وهو رفض التعددية البشرية من عرقية، وثقافية ودينية… إلخ، وهذا أمر في غاية الخطورة، والواقع أن هذه التعددية تأتي في صميم النشأة البشرية. إن كلَّ الأديان تُعلن وتُثبت أن الله خلق الإنسان بل الخليقة كلها على تعددية الأشكال والألوان واللغات… إلخ. إذن، فإلغاء التعددية البشرية يناقض عمل الله الخلاق المبدع، وكذلك يناقض حرية الإنسان التي هي أساس خياره وإيمانه. إن الإنسان كائن مخيَّر ليس بمسيَّر، وكائن مسئول ليس بمجبور، وهذه كما نعلم قضية قديمة مهمة ومعقدة للغاية. فبدون هذه التعددية ليس هناك خيار، وبدون خيار ليس هناك حرية، وبدون حرية ليس هناك إيمان كفعل إنساني حرٍّ مخيَّر.
إذن، يجب إثبات تعددية الأديان، وكذلك يجب الاعتراف بأن كلَّ دين له الحق في إثبات هويته الخاصة بدون اختزال. فقط عند أخذ “غيرية الآخر” على مَحمَل الجد يجد المرء المفتاح الحقيقي لفهم هويته الخاصة بشكل أكثر عمقًا وحقيقة. فإن كلاًّ من الهوية (identity) والغيرية (otherness) لا تَستبعِد ولا تُلغي بالضرورة إحداهما الأُخرى، بل كلُّ واحدة منهما تستدعي الأُخرى وتُعزِّزها. إن الخبرة المُجَرَّبَة تُثبت أن فهمًا عميقًا للذات الخاصة لا يُمحَى بل يتَّسع ويتعمَّق بالانفتاح على الآخر المختلف. إذن، يبدو جليًّا أن هناك حاجة مُلحة للنظر إلى الخبرة الدينية نظرةً أكثرَ شُموليةً وسعةً وعمقًا، نظرةً بعيدة عن كل حكم مُسبَق واختزال سطحي. فهذا الانفتاح الأساسي قد يمثل الخطوة الأولى نحو التغلُّب على تلك القبليَّات الثقافية والدينية التي صارت المنبعَ الأول للتعصب بل للتطرف حتى وحشية الإرهاب المدمِّر تحت شعارات دينية لا تَـمُتُّ له بأي صلة.
3- التصوف والبحث عن الهوية الحقيقية: اللقاء مع نفسه ومع المطلق
وعلى أساس هذه التأملات نرى أهميةَ تأسيس الهوية البشرية في جذورها الحقيقية، وهي الجذور الروحية الممثَّلة في البعد الروحي الصوفي (mystic) بمعناه العام الحقيقي لإنقاذ البشرية من خطر فقْد هويتها. فالتصوف في معناه العميق والصحيح يسعى إلى اكتشاف الهوية الإنسانية الجوهرية التي تقع في صميم خبرة الإنسان بذاته عبر
كل أوصافه ومظاهره السطحية العابرة، وهذا لأن التصوف يقود الإنسان إلى لقاءٍ حياتيٍّ واقعي ملموس مع أصله الأول وهدفه الأخير، أي مع المصدر الأصيل لوجوده، ومن ثم إلى مقابلة بمعناه الأسمى والأعمق، وهو المطلق، أي الله. إن الإنسان إذا ما سَبَر أعمق أعماقه ينكشف على أنه الكائن للتسامي من أصله، أي الموجَّه من أساسه وجوهره نحو المطلق، فبدون هذا البعد الجوهري يفقد الإنسان هوية إنسانيته وذاته، فيصير شيئًا بين الأشياء لا غير، فتشيُّؤ الإنسان هذا أو قل رَوْبَتَتُه تلك، كما أشرنا سلفًا، يمثِّل الخطر المميت والمُهلك للإنسان المعَولم المعاصر. فعليه الرجوع إلى تلك القِيَم الإنسانية الأصلية التي كانت عبر تاريخه الطويل مصدر إنسانيته، وإلى تلك الفضائل التي أبقته في الوجود كإنسان عبر كل تقلبات تاريخه المتغير. فهناك مجالاتٌ واسعة للحوار بين الأديان كلها لإنقاذ هوية الإنسان المُعَولَم من تلك المخاطر التي وصفناها سلفًا.
والواقع أن هناك الكثير من المحاوِر الأساسية المشتركة بين الأديان العالمية التي تمثل الإطار المناسب لإجراء حوارٍ ديني جادٍّ بينها. نذكر منها: البحث عن هوية الإنسان في ذاتيته أي كإنسان؛ ثم البحث عن تصرُّفه مع البيئة الكونية التي يتموضع فيها الإنسان، فهذه البيئة الكونية أيضًا قد صارت في خطرٍ جدِّ جسيمٍ قد يؤدي إلى هلاكها الكامل؛ وأخيرًا البحث عن البعد المتسامي (transcendental) للإنسان نحو المطلق الذي هو المنبع الأول والغرض الأخير لهويته الإنسانية كإنسان، إذْ هو المعنى الأخير لوجوده ولوجود كافة الموجودات.
على أساس هذه التأملات نرى أننا، أتباعَ الأديان العالمية المختلفة، علينا مسئولية كبرى في تأسيس وإثبات إنسانية جديدة (new humanism) متحررة من قيود مصالح العولمة التسويقية من ناحية ومن نزعات القبليات الحديثة المدمرة حتى مظاهرها الإرهابية من ناحية أخرى، لكي نُنْشِأَ إنسانيةً متفتحةً أكثر فأكثر على كل أبعاد الإنسانية جمعاء، إنسانيةً تهتم بكل إنسان فردًا وجماعة، حسب قول الكاتب الروماني القديم، تيرينسيوس أفير (Terentius Afer) (ت184 ق.م): “أنا إنسانٌ، فلا شيء مما يخصُّ الإنسان أعتبره غريبًا عنِّي”.
فهذه هي الإنسانية العامة الكلية الشاملة، فعلى كل واحد منا مسئولية كبرى لتحقيقها في قريتنا العالمية حيثما كنا، وإلا فلا مفرَّ لجنسنا البشري من السقوط في هوة اللامعنى والعدمية.
وأخيرًا، يجمل لي أن أختِم مقالتي هذه بقول مفكر مسيحي معاصر مشهور، هو العالم اللاهوتي الألماني هانز كونج Hans Küng)):
“لا سلام بين البشر حتى يتم أولًا السلام بين الأديان”.
فهذا هدف تواجدنا هنا.
ومن الأشعار الصوفية الشهيرة في وحدة الأديان:
1- من قصيدة التائية الكبرى لعمر بن الفارض (ت632 /1235)
738 وَمَـا زَاغَـتِ الأَبْصَارُ مِنْ كُـلِّ مِلَّـةٍ وَمَا رَاغَتِ الأَفْكَارُ فِى كُلِّ نِحْلَةِ
739 وَمَا حَارَ مَنْ لِلشَّمْسِ عَنْ غِرَّةٍ صَبَا وَإِشْرَاقُهَا مِنْ نُورِ إِسْفَارِ غُرَّتي
740 وَإِنْ عَبَدَ النَّارَ الَمجُوسُ وَمَا انْطَفَتْ كَمَا جَاءَ فِى الأَخْبَارِ فِى أَلْفِ حِجَّةِ
741 فَا قَصَدوا غَيْرِى وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ سِوَاىَ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوا عَقْدَ نِيَّةِ
742 رَأَوْا ضَوْءَ نُـورِى مَــرَّةً فَتَـوَهَّـمُـو هُ نَارًا فَضَلُّوا فِى الهُدىَ بِالأَشِعَّةِ
2- ومن كتاب ترجمان الأشواق لمحيي الدين بن العربي (ت638 /1240):
لقد صارَ قلبى قابلاً كلَّ صورَةٍ فمَرْعًى لغِزْلانٍ ودَيْرٌ لرُهبانِ
وبَيتٌ لأوْثانٍ وكعبةُ طائفٍ، وألوَاحُ تَوْراةٍ ومُصْحَفُ قُرآنِ
أدينُ بدينِ الحُبِّ أنَّى توَجّهتْ رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني
المصدر: مركز كومبوني