“أَطلِقْ شعبي ليعبُدَني”
(خروج 9: 1)
1. يُسعدني أن أشاركَ معكم في احتفال افتتاح هذا المؤتمر البيبلي الرابع عشر حول “سفر الخروج” الذي دعتْ إليه الرّابطةُ الكتابية في الشَّرق الأوسط ونظّمتْه، وتستضيفه، مشكورةً، جامعةُ سيّدة اللويزة – ذوق مصبح، من اليوم وحتّى الخامس من شهر شباط / فبراير الجاري. فإنّي أحيّيكم جميعًا، محاضرين ومشاركين، وبنوعٍ خاصّ الأب أيّوب شهوان، الرّاهب اللبناني الماروني، منسّقَ الرّابطة الكتابيّة وأعضاءها. نسأل الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، شفيعةِ هذا الصّرح الجامعي، أن يقود، بأنوار روحِه القدّوس، أعمالَ هذا المؤتمر، ويُباركَ، بفيضٍ من نعمه، جميعَ المشاركين.
2. باختياركم “سفر الخروج” موضوعًا لهذا المؤتمر، إنَّما تُذكّرون بمفهومه اللاهوتي وبموقعه الخاصّ في تاريخ الخلاص، من خلال الحدث التّاريخي القديم، حدَثِ الخروج من مصر. فهو لا يقف عنده بل يتعدّاه ليكون حقيقةً حيّةً دائمةً في حياة الكنيسة ورسالتها، هي المدعوّةُ “لتَخرُج“، وباستمرار، من ذاتها نحو العالم، و”لِتعبُرَ” نحو الآخرين المختلفين عنها في دينهم وثقافتهم وحضارتهم، حاملةً خميرةَ الإنجيل من أجل زمنٍ جديد، وعهدٍ جديد، وثقافةٍ جديدة، وعالمٍ أفضل. لسنا أذن أمام كتاب قد تمّ في زمانه وقلّما يعنينا في عصرنا، بل هو كتابُشعبِالكنيسة، الشعبِ الكهنوتي الملوكي المقدّس (1 بط 2: 9)، الذي “يعبر” في العالم نحو جميع الأمم والشعوب من دون توقّف، ومن دون حدود، بإرسالٍ من المسيح الربّ: “إذهبوا إلى العالم كلّه، وأعلنوا إنجيلي إلى الخليقة كلّها” (مر16: 15).
هذا “الخروج” الدّائم من الذّات، ومن المصلحة الشّخصية، والموقف المتحجّر، والمنطق الخاص، و”الذّهاب” نحو الآخر في الضّواحي، حيث الفقر والحرمان، وحيث الحاجة إلى الحقيقة تُنير وتُحرّر، وإلى الحبّ يتفانى في الحضور والخدمة، وإلى العدالة تُنصف، وبكلمة حيث الحاجة إلى إنجيل يسوع المسيح، إنَّما هي كلمات عزيزة على قلب قداسة البابا فرنسيس، الذي ما انفكّ، منذ اعتلائه السدّة البطرسيّة، يردّدها على الكنيسة، بأبنائها وبناتها ومؤسساتها، بإكليروسها وعلمانيّيها، شرط الخروج معًا، والذهاب معًا، كأفراد وككنيسة تسير كلّ يوم.
3. أمّا موقع “سفر الخروج” الخاصّ، فهو أنّه يشكّل ثلاث محطّات أساسيّة في تاريخ الخلاص: تكوينُ شعب الله القديم؛ الفصحُ القديم وهو العبور من أرض وحالة العبوديّة إلى أرض الوعد والحرّيّة؛ وتنظيمُ العبادة لله للدلالة على أنّ الخروج والذّهاب ينطلقان منه ويعودان إليه، فإذا بالعبادة المنظّمة في الليتورجيّا البالغة ذروتها في سرّ الإفخارستيا، تصبح ينبوع الحياة، ومصدرَ بنيان الكنيسة (راجع الدستور العقائدي في الكنيسة، 17). بهذا المعنى جاءت كلمة الرّبّ في سفر الخروج، وهي شعار هذا المؤتمر: “أطلقْ شعبي ليعبدني” (خروج 9: 1). ففي العبادة لله حياةُ الإنسان الحرَّة والسعيدة.
4. لكنّ “الخروج” و”العبور” لا يتمّان إلّا بقوّتين هما الحقيقة والحبّ، النّابعان من الإيمان. فالإيمان يُحوّل الشّخص بكامله، بمقدار ما ينفتح على الحبّ. والإيمان يُعلّم الحقيقة، ويقدّم لنا نورًا جديدًا يُنير كلّ حقائقنا الشّخصيّة والنسبيّة، ويُحرّرنا من ظلماتها، ويُساعدنا على الثّبات آمنين (راجع الرّسالة العامّة للبابا فرنسيس: نور الإيمان، 23-28).
نصّان بيبليّان يشرحان هذا الرّباط بين الإيمان والحقيقة والحبّ والثبات.
الأوّل من آشعيا النّبي بصيغتَين: صيغةُ النّصّ العبري: “إن لم تؤمنوا، فلن تأمنوا” (اشعيا 7: 9)، يعلّمنا أنّ الإيمان يولّد الثّبات والأمان في حضرة الله. ما يعني أنّ الإيمان صخرةٌ يمكن الإرتكازُ عليها. ألم يُشبّه الرّبُّ يسوع الإيمان بصخرة يبني عليها الرّجل العاقل بيته فيصمد هذا البيت مهما هطلت الأمطار وعصفت الرّياح وضربته (راجع متى 24: 7-27)؛ والكنيسة ألَم يَعِدُ المسيحُ إبنُ الله الحيّ ببنائها على صخرة إيمان بطرس (راجع متى 16: 15-18)؛ في قلب المِحَن والعواصف التي تضرب الكنيسة والمسيحيين في بلدان الشّرق الأوسط وشعوبها، نُصغي من جديد إلى كلام الله على لسان أشعيا: “إن لم تؤمنوا، فلن تأمنوا” (7: 9).
أمّا صيغةُ النّصّ اليوناني فتقول: “إن لم تؤمنوا، لن تفهموا”. وهي دعوة لفهم عمل الله وتدخّله الخلاصي في تاريخ البشر، ولفهم الوحدة القائمة بين حياة الإنسان وتاريخ الشّعب. هذه الدّعوةُ لفهم طرق الرّبّ تكشفُ أمانتَه وتدبيرَ حكمته التي تُدير الأزمنة.
عبّرَ القديس أغوسطينوس في كتابه “إعترافات” عن صيغة النصّ العبري: “الإيمانُ والثبات” بصلاة الوعد للربّ: “فيك يا ربّ، في حقيقتك سأكون ثابتاً وصامداً”؛ وعن صيغة النصّ اليوناني: الإيمانُ والفهم إعتبرَ أغوسطينوس أنّ حقيقة الثّقة بالله هي حضوره الأمين في التّاريخ، وقدرتُه على جمع الأزمنة وأيام الإنسان المشتّتة في قبضة يده (راجع نور الإيمان، 23).
كم هذا النص يذكّرنا بواجب قراءة علامات الأزمنة، أي أحداثِ الحياة الخاصّة والعامّة في ضوء ا
لإيمان وكلمة الله! وكم أنه يَقنعُنا من جديد أنّ سيّد التاريخ هو الله لا البشر. فالآب، بفيضٍ من حبّه، خلقهم، والابن خلّصهم، والروح القدس يقدّسهم.
5. النّص البيبلي الثاني من القدّيس بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية، وهو “أن نؤمن بالقلب”(روم 10: 10). فيؤكّد أن للإيمان معرفةً خاصّةً يسكبها في القلب، الذي هو مكان الانفتاح على الحقيقة والحبّ. فالقلبُ، حسب الكتاب المقدّس، هو المكان المركزيُّ حيث تلتقي جميعُ أبعاد الكيان الإنساني: الجسدُ والروح، باطنُ الشخص وانفتاحُه على العالم وعلى الآخرين، العقلُ والإرادةُ والحياةُ العاطفية. إنَّ معرفةَ الإيمان الحقّةَ هي تلك التي تُولَدُ عندما نقبل حبّ الله الكبير، وهو حبٌّ يحوّلنا من الداخل، ويعطينا عيونًا جديدة لنرى واقع الأمور.
كما أنّ الحبَّ بحاجة إلى الحقيقة، كذلك الحقيقةُ بحاجة إلى الحبّ. الحقيقة والحبّ لا ينفصلان. بدون الحبّ تفتر الحقيقة وتصبح خارجة عن قناعات الشخص البشري، فتثقله بمقتضياتها، وترهق حياته. من يحبّ يدرك أن الحبّ دخول في الحقيقة، واختبار حياتيٌّ لها، إذ يفتح عينيه ليرى كلّ واقعات الحياة بشكل جديد، بالاتّحاد مع الشخص المحبوب. لذا قال القديس غريغوريوس الكبير: “الحبُّ نفسُه معرفة، ويحمل في ذاته منطقًا جديدًا” (راجع نور الإيمان، 26-27).
6. كلّ الدراسات البيبلية والأبحاث والتفسيرات العلميّة والروحيّة والراعوية، بما فيها هذا المؤتمر، إنّما هي مدعوّة لتُثمر إيقاظًا للإيمان والحبّ في قلب كلّ إنسان، وعيشًا في نور الحقيقة، وثباتًا وصمودًا بوجه محن الحياة وصعوباتها، على مثال أمّنا مريم العذراء التي شرح الربّ يسوع سرَّ أمومتها للمرأة وسط الجمع، وقد قالت: “طوبى للبطن الذي حملك وللثديَين اللّذين أرضعاك”، فأجاب: “بل طوبى للذي يسمع كلمة الله ويحفظها” (لو11: 28).
وفي موضعٍ آخر اعتبر أنّ مَن يسمع كلام الله ويحفظه، إنّما يدخل معه في علاقةِ أخوّة وأمومة، أي في علاقة اتّحاد وتشبّه (راجع لو8: 19-21).
7. بارك الله أعمال هذا المؤتمر، وجعل ثمارَه خصبةً في قلوب المشاركين ونفوسهم، ومن خلالهم في كلّ قلب بشري. وليضعنا دائمًا في حالة “عبور” و”خروج” من الذات نحو الآخرين، مكوّنين معهم شعبًا يليق بالله، من أجل عيش أفضل في نور الحقيقة، واندفاع في الحب، وثبات في المحن، أقوياء بسرّ القربان الذي هو غذاء حياتنا في رحلة الحياة.
مع الشكر لإصغائكم!
* * *