تاريخيّة أحداث سفر الخروج بين المدراش والفن الأدبيّ اليونانيّ في سفر الحكمة

ملخّص محاضرة الأب ريمون هاشم – لبنان في اليوم الثالث من المؤتمر البيبليّ الرابع عشر للرابطة الكتابيّة في الشرق الأوسط

Share this Entry

في مراجعتنا للأحداث التاريخيّة لزمن الخروج بحسب قراءة الكتب الحكميّة، نقف أمام تباين واضح بين التاريخ المنقول في سفر الخروج وبين السرد المتّبع للتاريخ عينه في الكتب اللّاحقة، ممّا يدعونا إلى التساؤل حول المصادر التاريخيّة التي استعان بها مؤلّف سفر الحكمة كمرجع له – وهذا موضوع مقاربتنا الدراسيّة.

راجَعَ م. ج. لا غرانج، منذ حوالي القرن تقريبًا، المواقع التي جرت فيها أحداث سفر الخروج في صحراء سيناء، وخلص إلى أنّ مؤلّفي الكتب المقدّسة لم يكتبوا التاريخ بحسب الطرق المعاصرة؛ لذلك، وإن شئنا إدراك المعنى الصحيح المُراد في كتاباتهم، فعلينا معرفة الفنون الأدبيّة الّتي استعانوا بها للقيام بعملهم. من هذا المنطلق، لا ينبغي أن نتفاجأ من طريقة سردهم لأخبار الخروج حتّى ولو لم تتناسب مع معايير فنّ كتابة التاريخ. عندما عاود مؤلّف سفر الحكمة الاستعانة بالنصوص الكتابيّة، لم يطرح أيّ سؤال حول صحّة أو عدم صحّة مضمونها التاريخيّ، ولم يحاول أبدًا كتابة تاريخ أكثر وضوحًا منها، بل استخدم ببساطة لا مثيل لها النصوص المعروفة والشائعة بين جميع الذين يقرؤونها كون هذه الأخبار التاريخيّة تشكّل أسسًا متينة لنقل تعليمه؛ وبالمقابل سخّر الفنّ الأدبيّ، الّذي من خلاله أراد إظهار رسالته الحكميّة، كوسيلة فعّالة لتحقيق غايته. في هذا الإطار، خوّل المؤلّف لنفسه وللهدف ذاته أن يقتطعَ ما يريد من النصوص ويمرَّ بصمت على نصوص أخرى عديدة، ويستجمعَ الآياتِ التي تخدم غاياته مباشرة، فاختار في مراجعته للتاريخ الكتابيّ أن يقرأ خبرين تأسيسيّين، الأوّل خاصّ بالصورة المثاليّة الّتي ينبغي أن يتحلّى بها الحكيم الإسرائيليّ والثاني هو الخبر الخاصّ بإسرائيل الذي تكوّن على يديّ الله؛ إذًا فالأمر الذي انجذب إليه المؤلّف ما هو إلاّ كون الأوّل مثالي (سليمان) والثاني تأسيسيّ (الخروج).

          من جهة أخرى، توجّه الكاتب بكتاباته إلى العنصر اليهوديّ الشابّ، فاحتفظ بالخيارات الّتي تمّمها سليمان عندما وجّه أنظاره نحو الحكمة؛ أمّا صمت المؤلّف حول نهاية حكم سليمان المحزن، فمردّه يعود إلى الفنّ الأدبي الّذي اختاره – وهو مديح الحكمة بحدّ ذاتها، وسبل الوصول إليها من قبل الإنسان، والعنصر الشاب المُستهدف بخطابه – والّذي يُمارَس ضمن إطار حياتيّ معيّن. أمّا قراءته لسفر الخروج فقد مارسها باستجماعٍ للتضادّ الحاصل بين الأحداث (ضربة/ عمل خلاصي)، وهي طريقة تتصدّر الخطاب القديم القائم على الفنّ الأدبي الاحتفاليّ الخاصّ بالمديح؛ عمليًّا، يهدف هذا التوسّع بالخطاب المستند على المقارنة إلى إقناع القارئ وترسيخ الأفكار الجديدة بشكل نهائيّ في عقله. إنّ هدف الكاتب ينحصر في الإقناع وليس في استرجاع التاريخ مجدّدًا كما يفعل الباحث التاريخيّ عادةً. في السيّاق عينه، استعان بالطريقة المدراشيّة ليزيد من إقناع قرّائه كما جرت العادة في التقليد اليهوديّ، ولإظهار مدى آنيّة الأخبار الكتابيّة. في الواقع، إنّ أحداث الماضي تحمل دوما في طيّاتها رسائل آنيّة تطال أحداث اليوم كما هي الحال في عمليّة تطبيق صورة المصريين المعاصرين للخروج على إسرائيليّي الاسكندريّة المعاصرين للمؤلّف.

          إنّ تكييف الأحداث الكتابيّة القديمة وجعلها شموليّة (موجّهة لكلّ البشريّة) وتوضيح دور وعمل الكون فيها تحت قيادة الله، يؤدّي بنا إلى اكتشاف فحوى مستقبلٍ مستتر في الأحداث والأخبار الخاصّة بتكوين إسرائيل يعلن عن خاتمة التاريخ الإسرائيلي، أي الزمن الإسكاتولوجي المذكورة حججه في حك 1 – 6 والذي يتحدّث عن سعادة البار في السماء.

          الخلاصة هي بأنّ الكاتب لم يكتب تاريخًا كما التاريخ المعاصر، بل استعان بالتاريخ وتأمّل فيه بهدف واضح، ألا وهو إقناع القارئ وحثّه على طلب الحكمة الإلهيّة، التي تحكم التاريخ البشريّ، والتي لا يمكن مدحها وإبرازها إلاّ من خلال التذكير بحضورها في قلب التاريخ، أي في اللّحظات التأسيسيّة للشعب المختار.

Share this Entry

الأب اغناطيوس أوفي

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير