رســالة راعــوية للمطران كريكور أوغسطينوس كوسا بمناسبة الصوم الأربعيني 2015

الصوم دعوة إلى التواضع

Share this Entry

إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،

وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في أبرشية الإسكندرية،

وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،

“فليكن فيما بينكم الشعور الذي هو أيضاً في المسيح يسوع. فمع أنه في صورة الله لم يعد مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته متخذاً صورة العبد وصار على مثال البشر، وظهر في هيئة إنسان فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله إلى العُلى، ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء.”(فيلبي 5:2-9).

فضيلة التواضع هي من أسمى الفضائل المسيحية والإنسانية، التي إذا تحلّى بها الإنسان يسمو في حياته الروحية والاجتماعية، وفي علاقته مع الله، ومع الذات ومع القريب. وهذه الفضيلة هي وليدة الإيمان بالله الذي ارتضى أن يعلن لنا ذاته في ربنا يسوع المسيح، الذي هو: “بهاء مجده وجوهره”. الإيمان الذي هو عطيةُ من الله لنا، وهو: “الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى”، وكلمة “تواضع” تعني التذلّل والتخشّع وإخلاء الذات ليسكن المسيح بغنى في حياة الإنسان، والكبرياء هي ضد فضيلة التواضع وتعتبر من الآفات الروحية والإجتماعية.

يعطي الكتاب المقدّس أهميةَ كبيرة لموضوع التواضع في عهديه القديم والجديد. ونكتفي بالإشارة إلى بعض الآيات التى تبيّن العلاقة بين فضيلة التواضع والفضائل التي تنتج عنها. فالمتواضع هو الذي يراه الله ويكون في شركةٍ دائمة معه، ذلك لأن “الرّبُّ تعالى ونظر إلى المتواضع. أما المتكبّر فيعرفه من بعيد” (مزمور 6:138). ليس ذلك فقط، بل الله نفسه يسكن معه، لأنه هكذا قال العليُّ الرفيع ساكن الخلود الذي قدوسٌ اسمُه: “أسكُنُ في العلاء وفي القُدس ومع المنسحق والمتواضع الرّوح لأحيي أرواح المتواضعين وقلوب المنسحقين” (أشعيا 15:57).

فدعوة الله لنا هي أن نسلُك طريق التواضع، لنختبر نِعمه وبركاته التي وعدنا بها.

الرّب يسوع جسّد التواضع في حياته. وهو الذي كان في البدء عند الله وهو كلمته، ويتمتّع بكمال الله، ومتساوٍ للآب في الجوهر، صار إنسان مثلنا كما يكتب لنا القدّيس يوحنا الإنجيلي: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله… والكلمة صار بشراً فسكن بيننا”(يوحنا 14:1).

وكان يسوع واضحاً في تعليمه عن التواضع لتلاميذه ومن خلالهم إلى الفرّيسين والكتبة الذين ينصّبون أنفسهم قضاة على ضمائر الناس وحياتهم الرّوحية والأدبية والإجتماعية بقوله: “ليكن أكبركُم خادماً لكم. فمن رفع نفسه وضِعَ، ومن وضَعَ نفسه رُفِع”(متّى 12:11). وقال أيضاً: “تعالوا إليَّ جميعاً… وتتلمذوا لي فإنّي وديعٌ ومتواضع القلب، تجدوا الراحة لنفوسكم…”(متّى 28:11-29)، فالتواضع هو طريق العظمة الحقيقية والرفعة، التي تترجم في الحياة خدمةً صالحة تعمل على بناء الإنسان ومجتمعه بناءً صحيحاً.

لقد فهم الرسل والتلاميذ أهمية التواضع في الرسالة التي إئتمنهم المسيح عليها، رسالة الإنجيل، التي تشير إلى ما فعله الله في يسوع المسيح للإنسان. وقد حاولوا سلوك هذا الطريق. وتعاليم القدّيس بولس مليئة في هذا الخصوص لأنه جسّدها في حياته، وطلب من كنائس المسيح ممارستها، قائلاً: “سيروا سيرةً تليق بالدعوة التي دعيتم إليها، سيرةً ملؤها التواضع والوداعة…”(أفسس 1:4-2).

وفي رسالته إلى كنيسة فيلبي، ولكنيسة المسيح عبر العصور والأجيال يركز على التحلّي بروح المسيح وفكر المسيح فيقول: “فأتِمّوا فرحي بأن تكونوا على رأي واحد ومحبّةٍ واحدة وقلبٍ واحد وفكرٍ واحد. لا تفعلوا شيئاً بدافع المنافسة أو العُجب، بل على كلٍ منكم أن يتواضع ويَعُدّ غيره أفضل منه”(فيلبي 2:2-3). ويذكر القدّيس بولس في الآيات اللاحقة درجات تواضع المسيح، “الذي كان في صورة الله، ومعادلاً له، تجرّد من ذاته متخذاً صورة العبد، وصار على مثال البشر”(فيلبي 6:2-7). ويذكر أيضاً القدّيس بولس درجات رفعته: “فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله إلى العلى، ووهب له الاسم الذي يفوق كل الأسماء، كيما تجثو لاسم يسوع كلُّ رُكبةٍ في السماوات وفي الأرض وتحت الأرض، ويشهد كل لسانٍ أن يسوع المسيح هو الرّب تمجيداً لله الآب”(فيلبي 8:2-11).

الصوم طريق إلى التواضع:

كنيسة المسيح التي اقتناها الله وافتداها يسوع بدمه مدعوة لأن تسلك طريق سيّدها ومعلّمها، وتجسّد روحه في مجتمعها وتحمل رسالته إلى الشعوب، “فتنبهوا لأنفسكم ولجميع القطيع الذي جعلكم الرّوح القدس حراساً له لتسهروا على كنيسة الله التي اكتسبها بدمه”(أعمال الرسل 28:20).

فرسالة المسيح هي رسالة التواضع ونكران الذات، رسالة التوبة والمصالحة، رسالة المسامحة والمغفرة، رسالة الوحدة والتضامن والمحبّة.

وأما الإنحراف فهو الابتعاد عن هذه التعاليم ويسبب لنا الفتور واللامبالاة والكبرياء وضعف في الإيمان والإرادة ويؤدي إلى الإنقسام والإنشقاق بيننا.

فهل نصحح مسيرة حياتنا، ونسلك طريق التواضع؟

هذا التصحيح يجب أن يقود طريقنا ومسيرتنا الروحيّة خلال الصوم إلى:

أن نظهر توبتنا بالتواضع: التوبة، هي الطريق إلى المصالحة في يسوع المسيح بنعمة الرّوح القدس. والتوبة في أسمى معانيها هي الرجوع إلى النفس والرجوع إلى الله المُحب، فنمزّق قلوبنا لا ثيابنا كما يقول النبي يوئيل: فالأن يقول الرّب: “إرجعوا إليَّ بكلِّ قلوبكم، وبالصوم والبكاء والإنتحاب”. مزًقوا
قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرّب إلهكم فإنه حنون رحيم طويل الآناة كثير الرحمة(يوئيل 12:2-13).

فالتقرّب من السيّد المسيح المخلّص بتوبةٍ صادقة يشدّنا إلى بعضنا ويوحّد أفكارنا وقلوبنا ونفوسنا. ومصالحتنا مع الله بالمسيح يسوع هي الأساس لمصالحتنا مع بعضنا، وهذه المصالحة تنعكس إيجابياً على حياتنا المسيحية.

عبثاً نحاول الصوم دون التوبة والندامة والتجدّد الداخلى. فالتوبة إلى الله حتمية وضرورية لأننا أخطأنا أولاً ضد جلاله الإلهي، وثانياً بتهميش بعضنا بمعاملاتنا وتصرفاتنا وأنانيتنا وحقدنا وكراهيتنا…

أن نظهر توبتنا بمحبّةٍ صادقة متبادلة:المحبّة، هي ليست عقيدة نتغنّى بها، إنها حياة نجسّدها ونعيشها مع بعضنا. فالمحبّة لا تكون محبّة حقيقية ما لم تبذل نفسها وتضحي في سبيل الآخر وتتجه نحوه بصدقٍ وإخلاص وغيرةٍ. فالمحبّة كما يقول القدّيس بولس هي رباط الكمال وتستر كثير من الخطايا.

الشريعة والأنبياء كلها تقوم على محبّة الله ومحبّة القريب. هذا ما أكده الرّب يسوع في جوابه إلى الفريسي الذي أتى ليجرّبه ويحرجه قائلاً: يا معلّم، ما هي الوصيّة الكبرى في الشريعة؟ فقال له يسوع: “أحبب الرّب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والأولى. والثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك. بهاتين الوصيتين ترتبط الشريعة كلها والأنبياء” (متّى 34:22-40). وقال بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس: “فالآن تبقى هذه الأمور الثلاثة: الإيمان والرجاء والمحبّة، ولكن أعظمها المحبّة”(قورنس 13:13).

أثناء أحاديثنا الودّية بيننا نقول: بمحبّة الله. بالتأكيد الله هو في طبيعته محبّة “الله محبّة“.

لذا نود أن نفحص ضميرنا بتواضع عميق لنعرف ونكتشف عن مدى محبّتنا لله من منظار محبّتنا لأخينا وللقريب. فالرسول يوحنا يقول: “من قال إنه في النور وهو يبغض أخاه لم يزل في الظلام إلى الآن. من أحبّ أخاه أقام في النور، ولم يكن فيه سبب عثرة. أما من أبغض أخاه فهو في الظلام، وفي الظلام يسير فلا يدري إلى أين يذهب لأن الظلام أعمى عينيه”(يوحنا الأولى 9:2-11).

فرسول المحبّة يوحنا الإنجيلي، يتكلّم عن المحبّة لله وللقريب بكل وضوح، فهو يدعونا إلى أن نحبّ بعضنا لأن المحبّة من الله، وكل من يحبّ فقد ولِدَ من الله ويعرف الله. ومن لا يحبّ لم بعرف الله لأن الله محبّة.

محبّتنا لبعضنا منبثقة من محبتنا لله. لذلك يقول القدّيس يوحنا الرسول: إذا قال أحدٌ:”إنّي أحبّ الله” وهو يبغض أخاه، كان كاذباً. لأن الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحبّ الله الذي لا يراه. إليكم هذه الوصية التي أخذناها منه: من أحبّ الله فليحبّ أخاه أيضاً(يوحنا الأولى 20:4-21).

أيها الإخوة والأبناء الأعزاء:

ندعوكم جميعاً بمناسبة هذا الصوم الأربعيني الكبير إلى الإنحناء أمام الله بتواضعٍ لنقبل ضعفنا ونكتشف خطايانا وليوحّد أفكارنا وقلوبنا، لنستطيع القيام بالمصالحة الفعلية والحقيقية مع الله ومع الذّات ومع القريب، فنجسّد معاً صومنا بفضائل تضيء طريقنا ومسيرتنا نحو الحياة الأبدية. ونزيّن بالتواضع والتوبة حياتنا وننقّي قلوبنا وضمائرنا لنقبل بعضنا ونتسامح ونتصافح، لأن الكتاب المقدّس يقول لنا: “إن الله يكابر المتكبرين وينعم على المتواضعين”. فاخضعوا لله وقاوموا إبليس فيذهب مبتعداً عنكم هارباً… طهروا أيديكم أيها الخاطئون ونقّوا قلوبكم… تواضعوا بين يدي ربّكم فيرفعكم.(يعقوب 6:4-9).

ومن أجل أن يكون صومنا مثمراً اخترنا لكم قراءات روحيّة من العهد الجديد، لترافقكم في التفكير والتأمل والمصالحة مع الله والذّات والقريب.

نتمنّى لكم جميعاً، كباراً وصغاراً، مسيرة حياة روحيَّة مشتركة وتوبةً مقبولة وصوماً مباركاً بشفاعة العذراء مريم أُمنا، وبصلوات القدِّيس غريغوريوس المنوَّر والطوباوي أغناطيوس مالويان وآبائنا القدِّيسين.

صـدرت عن كرسيّـنا الأسقفيّ في 12 فبراير/شباط 2015

في عيد القديـس ﭭـارطان ورفقائه شهداء الإيمان

وهي السنـة الثانية عشـرة لحبريّتنا

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير