وبالرغم من المسحة الداكنة والارتياب التي خلقتها هذه الحقب؛ إلا أنها ساهمت في تطوير الفكر اللاهوتي، وفي صياغة العقيدة وتقنينها؛ من قبل آباء الكنيسة الذين غاصوا في سر الكيان الإلهي؛ وفتشوا بمعرفة لبلوغ البراهين التي لا تقاوَم؛ لحفظ وديعة الإيمان السليم.
وكما أفرز هذا النزاع الأريوسي الكثير من التخبط والدهاء والدسائس والانشقاق؛ إلا أنه كذلك أبرز صورًا بهية لشخصيات لامعة وساطعة في علمها ونسكها وتقواها وسيرتها وإدارتها ودفاعها. وقد تحمَّلوا كل جهد عصبي وذهني وجسدﻱ؛ حتى النفي والتعذيب والتشريد والحرمانات، من أجل حفظ الأمانة والوديعة الإيمانية السليمة .
كذلك لم يكن كل هذا الانقسام عقيديًا لاهوتيًا فقط؛ لكنه كان سياسيًا ومتشخصنًا في مجمله.. فلو عُدنا بالتاريخ إلى الوراء عبر نظرة فاحصة ومتجردة؛ لوضعنا الأمور في سياقها، ولاَكتشفنا دور الأباطرة والسلطات وصراعات النفوذ وتأثيرها في وضع الموسيقي التصويرية وافتعال التصعيد والعناد؛ حتى صار العالم كله ينوح وينُوء تحت سيطرة الأريوسية؛ بحيث استمر الصراع الأريوسي؛ حتى بعد نيقية؛ بأذرع وأسلحة جديدة تفرعت وتشعبت (أريوسيين – مكدونيين – أبولنياريين – سابيليين)، تولد عنها هرطقات عديدة؛ بينما كان القديس أثناسيوس السكندرﻱ يسعى لا إلى النزاع حول الكلمات بدون جدوى؛ لكن بالتعبير بصوت واحد بروح التقوي؛ للمصالحة اللاهوتية وكسب الهراطقة إلى استقامة الإيمان وعودتهم إلى حضن الكنيسة أمهم؛ للإطاحة بالأريوسية ومخلفاتها؛ حتى تخُور وتتفتت وتتضعضع.
لقد اعتبر الآباء المئة والخمسون الذين اجتمعوا بالقسطنطينية أنفسهم بأنهم مكمِّلو آباء نيقية. وكما دافع آباء نيقية عن ألوهية الابن؛ كذلك دافع آباء القسطنطينية عن ألوهية الروح القدس… ويفتخر كل أرثوذكسي بأبطال الإيمان : ألكسندروس وأثناسيوس السكندرييْن (في نيقية)؛ وبالبابا تيموثاؤس السكندرﻱ؛ وبالآباء الكبادوك غريغوريوس النزينزﻱ والنيصي؛ وباسيليوس الكبير؛ وإبيفانيوس أسقف سلاميس؛ وكيرلس الأورشليمي (في القسطنطينية)؛ وهم مع كل المجتمعين في المجمعيْن؛ وضعوا صيغة إيمان الكنيسة الرسمية نصًا وصياغة متكاملة.
وعىَ آباء مجمع القسطنطينية أهمية اجتماعهم؛ وما يتهدد الكنيسة من بلبلة ومخاطر، فاسترجعوا ذكرى مجمع نيقية ليكون لهم المثل والمثال؛ فيقتفوا أثره؛ وإقرار صياغة تكون بمثابة الإيمان المسكوني في أربعة بنود هي ١- الله الآب
٢- الله الابن
٣- الله الروح القدس
٤- الكنيسة والمعمودية والأبدية (الإيمان التطبيقي)
لذلك يرى الآباء أن مجمع القسطنطينية شدد على الدستور النيقاوﻱ؛ مكملاً أمانة نيقية في المعنى والمبنى. تأسسًا على تراكم التقليد الكنسي الشفاهي، ولقائه بالثقافات (التثاقف)، ليبدأ تقنين الاصطلاحات التي تقدم تفسيرًا أوفىَ وأشمل وأوضح لمفاهيم أعمق وبشرح أفضل؛ يدحض الشكوك ويحل الغموض.
سُمِّي آباء مجمع القسطنطينية (بالنيقاويين الجُدد)؛ الذين أزالوا الكثير من اللغط اللفظي واللغوﻱ، وقدموا دفاعات مقنعة تميزت بالتوازن والقناعة العقائدية وتوضيح لمعاني اللفظية؛ التي تشق الطريق وتمهده نحو الوحدة والمصالحة اللاهوتية والفكرية والكنسية، الأمر الذﻱ وضَح جليًا في تحديدات مجمع القسطنطينية؛ مؤكدًا على حفظ إيمان نيقية وتثبيته؛ مع حرم وإدانة الهرطقات جميعها ، بلوغًا إلى تحرير الضمائر من تصرفات تشويش أعداء الكنيسة وافتراءاتهم وتشويههم وحسدهم واضطراباتهم وغشهم؛ تلك التي كان يصنعها الهراطقة ضد الأساقفة قويمي الايمان.
كذلك قبول الذين تابوا عن هرطقات؛ بعد أن يقدموا صكًا مكتوبًا باعتراف إيمانهم ورفضهم لكل هرطقة لا تتفق مع أمانة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية…كذلك أصدر المجمع أربعة قوانين تنظيمية.
بركة آباء الكنيسة وصلواتهم عند ربنا القدوس تكون معنا ولربنا المجد إلى الأبد.