نحتفلُ مع الكنيسة بالصوم الأربعينيّ ، فلا نعترف فقط بأنّ الله بمجيئه ، يدخل فجأة في تاريخنا ، بل نعترف بأنّ الربّ ، الإله الأمين ، يكتب ، عبر هذه الأحداث ، تاريخـــًا فريدًا ومن أجلنا . ففي عيد الفصح الأول كافح الربّ الإله في سبيل شعبه ، ثمّ في الكثير من أعياد تاريخ العهد الأوّل الفصحيّة ، وجبَ على الله أن يكافح غالبـــــا من أجل خلاص شعبه ، كافحَ من دونه واضطرّ لمواجهته . بهذا الفصح الأوّل وأعياده ، نصل إلى الفصح الحقيقيّ والأخير ، عندما أراد الله ، في ابنه الوحيد ، الحمل الفصحيّ ، أن ” يُضرب ” ويُذبَح عن يد شعبه ومن أجل كلّ الشعوب ، لتكون لهم الحياة وتكون لهم وفيرة .
فالتاريخ الذي أراد الله أن يكتبه هكذا من أجلنا ، يتجلّى بالتدريج وفقا لأمانته العاشقة وبمقتضى رحمته اللامحدودة ، وقد وعد بها آباءنا ، إكرامـــا لابراهيم ونسله للأبد (لو 1 : 45 – 55 ) . هذا هو التدبير التدريجيّ ، كما يقول أباؤنا في الإيمان ، وهو تدبير ينطلق من فصح العهد الأوّل وصولا إلى يومنا هذا ، من الجديد بكليّته وهو كذلك القديم ، من فصح الربّ ، من قيامته وصعوده إلى السماء ، ومن مجيء الروح . ويشيرُ القدّيس إيريناوس ، بهدف رعويّ ، إلى أنّ لمجمل سير تاريخ الله التدريجيّ معنا ” قيمة تربويّة ” . فقبل أن يكشف الربّ الإله عن ملء فصح ابنه ، بدأ بتربية شعبه على العطايا الاولى ، ثمّ دعاه من ” صور ” (الأشياء الرمزيّة) إلى ما هو حقيقيّ ، ومن الأشياء الزمنيّة إلى ما هو أزليّ ، ومن الأشياء الماديّة إلى ما هو روحيّ ومن الأرض إلى السماء . ولأنه كان على تاريخ الخلاص أن ينمو في كلّ واحد منّا بحسب ديناميّة ” التدبير التدريجيّ ” هذا ، اصبح لزامــــا علينا أن ننتقل من الإنسان القديم إلى الإنسان الجديد ، من الإنسان الناقص إلى الإنسان ” الكامل في المسيح ” (قول 1 : 28 ) .
نعترف أيضا ، مع الكنيسة ، بالصوم الأربعينيّ ، فعترف بإيمان أخيريّ ونؤمن بأنّ للزمن نهاية ؛ نؤمن كذلك بأنه في فصح الربّ الكبير تحقّق الحدث التاريخيّ القاطع ، وأن لا حدث على الإطلاق يستطيع أن يعادله . وما يدفع الكنيسة إلى أن تواصل تجديد نفسها ، من يوم إلى آخر ، هو إيمانها الثابث بأن الربّ قام من بين الأموات ، وأنه بموته انتصر على الموت ووهب الحياة للذين في القبور .
ما تنقله الكنيسة في تقليدها غير المنقطع هو أنّ ذلك العالم المستقبليّ ، أورشليم الجديدة ، أصبح واقعــا منذ الآن . وإذا ما أرادت الكنيسة عينها أن تحقّق التدرّج التاريخيّ ، فإن عليها أن تطيع الروح الذي يرشدها إلى الحقيقة كلّها بالتمام ، إلى الحقيقة الكاملة (يو 16 : 13 ) ، وفي الوقت نفسه ، عليها أن تستقي دومًا من ينبوعها الفصحيّ ، فتعيش ، في العالم ومن أجل العالم ، ما لحبّ الربّ القائم من الموت من غنىً لا محدود .