التفكير يساوي حياة “حَيَّة وراقية”، حياة غير مُعَلَّبة ولا صنمية؛ سموه “بالفكر السَّئُول” أو”الفكر المسئول” الذي اتخذته مدرسة الاسكندرية اللاهوتية منهجًا اتبعته Catechism كطريق للتعليم بين السائل والمسئول في بينية “بين – بين” على عتبة الاستنارة. فالإيمان ضروري للتعقل؛ كما التعقل ضروري للإيمان “اِعقلْ كي تؤمن؛ وآمِنْ كي تعقل” حسب قول القديس أوغسطينوس الفيلسوف .
ذلك التفكير المبني حسب المبادئ الكونية الصالحة للتعليم والمؤسَّسة على حرية التفكير والضمير والحقوق.. والتي بها يتم علاج حُمَّى التعصب الوبائي؛ الذي صب سموم الكراهية والعداوة وأعمال القتل والحرق والسلب في الأدمغة والقلوب؛ وغير ذلك من أمراض التصدع الأخلاقي والانتهاك الحضاري الخطير .
إن حاجتنا إلى حتمية إعادة بناء التفكير في زمن التكفير؛ لا تتوقف عند مجرد اصلاحات جزئية أو ترميمية؛ لكنها لو صدقت تتطلب شجاعة ثورية لرفض ظلامية التراث المتكلِّس والفكر العدائي المتعفن الناتج عن الجمود الأيديولوجي؛ وموروثات الجاهلية البدوية وعقليات الاحتراب الشرسة؛ المضادة لقيم الكرامة البشرية والتنوع؛ مثلما قال أرسطو بشأن أستاذه أفلاطون “أفلاطون عزيز عليَّ لكن الحقيقة أعز”، “أفلاطون صديق والحق صديق؛ لكن الحق أَوْلىَ من أفلاطون” .
لذلك حركة بناء الفكر؛ لا بُد أن تتسع وتتنوع؛ لتشمل ربوع حقول المعرفة بدينامية رحبة الأفق؛ وسط أنواء التجهيل وعواصف التحجر والجُبن الرافض للإبداع والتحرر والتفعيل والعقلنة؛ إذ لا معنى للفكر إذا انزوىَ وخبأ؛ بينما مهمته تتجه ناحية تغيير الواقع والتطبيق والممارسة وحساسية الوجود بجملته. فهو الجدار الأخير في معركتنا مع الجهل والظلامية وإجرام حرب العصابات وقُطَّاع الطرق… بحيث يتم تنصيب الإنسان والحياة في المكانة اللائقة التي قَصَدَها الخالق؛ مثلما قال باسكال “إن فخر الإنسان في عقله؛ وشقاء الإنسان أيضًا في عقله” .
فكلما يستقيم الفكر؛ كلما يُبدع الواقع؛ في ثراء ونماء رافض للانغلاق بأي سجن أو قفص؛ حتى لو كان من ذهبٍ… وكل عملية تحصيل وتراكم للمعرفة؛ إنما تفرز أخلاقًا وحكمة ومهارة، تؤهل للتعامل مع الممكنات؛ وتمكِّن من علاج مرضى فصام الفكر ورافضي العقل؛ لأن أفكار المجتهد إنما هي دائمًا للخصب (أم ٢١ : ٥).
إن عملية البناء الفكري تنطلق – كأي بناء – على أُسُس ولبنات معرفية وعلمية تكونه في استمرار وتدرُّج ممتد؛ لا تعترضها إلا معوِّقات الميل إلى استشكال الفروع دون الأصول والبحث عن المخارج الاحتيالية؛ لتجاوز أي اقتراب حاسم من الحلول الجذرية الموجبة لاقتلاع كل نصوص تخريبية؛ ورفض الوسائل التلفيقية التي تتستر وتهرب من مواجهة ما نجم عنها من انحطاط؛ على نقيض ما علَّم به معلمنا بولس الرسول “كل ما هو حق؛ كل ما هو جليل؛ كل ما هو عادل؛ كل ما هو مُسِرٍّ… ففي هذا افتكروا” (في ٤ : ٨) لأن محصلة ما نفكر به في قلوبنا هكذا نكون نحن (ام ٢٣ : ٧).