حتى ولو أننا اعتدنا على الوضع الحالي في الكنيسة، لا يجب أن يغيب عن انتباهنا أننا ما زلنا أمام واقع جديد. جدة الوضع الحالي تنبع من أننا نعاصر تعايش بابوين (بسلام) في الفاتيكان. وإحدى تعابير هذه الجدة حيرة الصحفيين في تسمية البابا المستقيل بندكتس السادس عشر. فهناك ما يسميه خطأً “البابا الفخري”، كما ولو أن البابوية لقب مُنح له إكرامًا وفخرًا.
بعد مضي عامين على استقالة البابا بندكتس السادس عشر ومع اقتراب الذكرى السنوية الثانية لانتخاب البابا فرنسيس، قررت زينيت أن تقوم بمبادرة جديدة تكمن في إعطاء الكملة لصحفيين يعنون بشؤون الكنيسة في دول مختلفة. في هذا الإطار، كان لنا حوار مع السيدة هالة حمصي، وهي كاتبة ومحققة في الاديان في جريدة “النهار”- لبنان. صحافية في جريدة “النهار” من العام 1995. حائزة ماجستير في الصحافة.
*
ما هي قراءتك للحدث التاريخي المتمثل باستقالة البابا بندكتس على بعد سنتين من حدوثه؟
هالة حمصي: استقالة البابا بندكتس اكثر من ان تكون تاريخية، لان البابا ادخل بها هواء اصلاحيا الى الكنيسة، قبل اي كلام على ورش اصلاحية، وبجرأة لم يتحلَّ بها بابوات سابقون. بهذه الاستقالة، ارسى خطا جديدا من السلوك البابوي، بتغيير تقليد يطاول موقع البابا نفسه، في وقت لم يكن من الممكن حتى التفكير في امر مماثل طوال قرون. اقل ما يمكن قوله ان قراره التاريخي يعكس الرجل الذي هو عليه: تواضع اللاهوتي الكبير، وجرأة المفكر في القول والفعل، الكاتب الغزير الذي آثر الاستراحة بين كتبه على الاستمرار في هذا النمط المرهق له وللكنيسة، وتصرّف على غرار الرجال الاحرار. انه البابا الحرّ.
ربما لن يكون البابا الاخير الذي يستقيل لاسباب صحية او غيرها. لكنه سيبقى الاول الذي تجرأ (المرة الاخيرة التي تنحى فيها بابا كانت قبل نحو 7 قرون). ما اقدم عليه لم يكن سهلا اطلاقا، لان استقالته وضعت وحدة الكنيسة الكاثوليكية وتماسكها تحت الاختبار. وهي تختبر كل يوم صلابة رجالها وامانتهم لله، في ظل واقع غير مألوف يتمثل في وجود بابوين في الفاتيكان، و”حرس” قديم يتململ من البابا الخلف، ويحنّ الى الزمن الغابر، الى زمن بندكتس.
امر آخر مثير للاهتمام في استقالة بندكتس. صحيح انها دخلت حيز التنفيذ من عامين، غير انه يبدو أنها لم تطوَ نهائيا، بما انها لا تزال، حتى اليوم، مثار كلام وكتب، وايضا تساؤلات عن حقيقة دوافعها وشرعيتها. وقد اكد اخيرا سكريتير البابا المونسنيور غيورغ غانسفاين (12 شباط 2105) ان “استقالة البابا جاءت بقرار حر من دون اي ضغوط”، وذلك اثر كلام على ان البابا أُجبِر على الاستقالة، وبالتالي فان انتخاب فرنسيس ليس شرعيا. اعادة “نبش” الاستقالة ليس بريئا بالطبع، وليس بعيدا عن سياق التململ من حبرية البابا فرنسيس الخلف. ولكن الاهم من كل ذلك هو الوقع الذي كان ولا يزال لها. بكل بساطة، لم تكن استقالة ضعف، بل استقالة رجل قوي.
بابوية فرنسيس شكلت بالنسبة للكثيرين ربيعًا إنجيليًا في الكنيسة. هل تؤيدين هذا الرأي؟
هالة حمصي: قوة البابا فرنسيس تكمن في قدرته على انزال البابوية الى المؤمنين، وتقريب الكنيسة من ناسها ومن الفقراء، من اللحظة الاولى لانتخابه. في السلوك البابوي، انها الثورة. البابا فرنسيس يعيش ما يؤمن به ويبشر به، حتى لو تطلب ذلك كسر البروتوكول والتقاليد. وكان ذلك واضحا من البداية. ولمس فيه المؤمنون حرارته الانجيلية، وسمعوه، وشاهدوه وهو يعمل، “يشتغل” الانجيل امامهم. قوة البابا فرنسيس هو في كونه بابا الفقراء، البابا الذي يصالح الكنيسة مع شعبها، ويذكر رجالها بـ”الكلمة”، يعيدهم اليها. انه البابا الذي يبيّض بنهجه صورة الكنيسة، بعد سلسلة الفضائح التي هزتها. وقد اثبت انه جدي وجريء وصريح، لا يهاب شيئا. ربيع انجيلي؟ انه كذلك لكثيرين. من منظار الصحافي المراقب، البابا فرنسيس هو النافخ في الكنيسة روح تجديد كبير. وفي نبضه، ثورة التغيير. ولكن يبقى السؤال: الى اي مدى سيُسمَح له بالعمل؟ وهل سيتمكن من انجاز ورشة الاصلاح التي يطمح اليها؟ من دون شك، مهمته لن تكون سهلة اطلاقا.
وماذا عن من يتهم البابا برغوليو بأنه “شيوعي”؟
هالة حمصي: انه مجرد كلام سهل لذر الغبار في العيون، للتلهي. حبذا لو كان الشيوعيون مثله. لسميوا انجيليين! في واقع الامور، كما للبابا فرنسيس مؤيدون ومناصرون ومحبون، فقد بات له في المقابل اعداء في الكوريا وداخل الكنيسة وخارجها. نهجه التغييري لا يروق لكثيرين، ويثير استياءهم. والقول بانه شيوعي او غوغائي او “مقوض للهيبة البابوية” او غيره يخرج من هذا السياق، ويعكس شراسة المعركة التي يخوضها البابا واعوانه للصلاح.
كيف تلخصين الصورة التي تتردد عن شخصية البابا الارجنتيني في الشرق الاوسط والعالم العربي عموما؟ في هاتين السنتين، قام البابا فرنسيس بمبادرات عدة تخصّ الشرق الأوسط منها الصلاة لأجل سوريا، الزيارة إلى فلسطين والاعتراف الضمني بها كدولة، الصلاة مع الرئيس الفلسطيني ونظيره الإسرائيلي في الفاتيكان. هذه الأحداث طبعت مخيلة المسيحي الغربي. هل كان لها نفس الوقع والتأثير في الشرق؟
هالة حمصي: يتمتع البابا فرنسيس بشعبية واسعة في الشرق الاوسط، خصوصا لبنان. انه محبوب الناس، وصورته حاضرة دائما. مسيحيا، عظاته المؤثرة وتحركاته واعماله تُتابَع يوميا، بفضل الاعلام، خصوصا المسيحي الذي لا يتوان
ى عن نقل زياراته وقداديسه الاحتفالية مباشرة على الهواء. وهذه المتابعة اليومية للبابا تضع لبنان ومسيحييه في علاقة محبة واعجاب به، كأنهم معه، بما يمكّنهم من مشاركته في مختلف مبادراته، لاسيما من اجل السلام. اسلاميا، انه الزعيم الديني المحترم الذي لكلامه ومبادراته الوقع والتأثير. واذا تمنى اللبنانيون اليوم، فامنيتهم هي ان يزور البابا فرنسيس لبنان، كما سبق ان فعل البابوان القديس يوحنا بولس الثاني وبندكتس السادس عشر. سيكون من المفيد جدا للبنان ان يجدد رسالته عبره وعبر ارشاد له.
في ظل الاحداث المأسوية التي تجتاح الشرق الاوسط، ما المنتظر من الحبر الاعظم من مبادرات لم تتم بعد؟
هالة حمصي: ما يختلج القلوب هو خوف كبير على المستقبل، في ظل مدّ “داعش” ووحشيتها. المسيحيون تحوّلوا “مشاريع” شهداء ينتظرون الذبح. هُجِّرت اعداد كبيرة منهم، دُمِّرت منازلهم، سلبت منهم اراضيهم وارزاقهم، وسيقوا للذبح، على غرار كثيرين من طوائف واديان اخرى. هل من المعقول ان يحتاج المسيحيون الى حماية في اوطانهم العربية؟ قام البابا بمبادرات عدة مشكورة، ويبقى اهمها ان يبقى الصوت القوي للمسيحيين امام المجتمع الدولي، وان يطالب من اجلهم، وان يُبقي قضيتهم حيّة. ومن الضروري ايضا ان يدعم المسيحيين في اوطانهم العربية، عبر مشاريع ومبادرات ميدانية تقويهم وتعزز وجودهم. ويمكن ايضا ان تشمل تلك المبادرات دعم الاعلام المسيحي وتعزيزه، لما له من دور كبير في نشر الكلمة، وتشديد المسيحيين وتنميتهم. انها ساعة العمل من دون شك. والعمل كثير.