يقول القدّيس اوغسطينوس : ” الأربعونَ يومـــــًا هي حصيلة العدد عشرة أربع مرّات ” . يعلّق الأب هانس ، في هذا العدد تختبئ حقيقة مستورة … فعدد أربعون هذا يرمزُ ، على ما يبدو ، إلى الحياة الحاضرة التي نحنُ نجتازها ونعيشها . إننا ننقاد ونندفع في مجرى الزمان ، وفي تقلّب الأشياء ، وفي تبدّل كلّ الأمور وتتابعها المستمرّ . وفي الشراهة العابرة ، وفي سير أمور لا ثبات لها على الإطلاق . فالعدد ” أربعون ” يشير إذن ، إلى هذه الحياة …. !
لقد أصبحت مهمّتنا أن نجد ذلك العدد في هذا المقام الأرضيّ ، فنُمسِك عن رغبات العالم : هذا ما يعنيه صوم الأربعين يومــًا . ويعرفه الجميع باسم الصوم الأربعينيّ . هذا الصوم توحي به الشريعة والنبوءة والإنجيل . ولأن الشريعة توصينا بالصوم على وجه الخصوص ، صامَ موسى أربعين يومــًا ، ولأنّ النبوءة توصينا به ، صام إيليّا أربعين يومـــًا ، ولأنّ الإنجيل يوصينا به ، صام المسيح الربّ أربعين يومـــًا .
أمّا العدد ” خمسون ” ، فيقول عنه الأب هانس ؛ إنه يرمز إلى ذلك الفرح الذي لا يمكن أحد أن ينتزعه منّا (يو 16 : 22 ) . في هذه الحياة ، لا نمتلكُ ذلك الفرح إمتلاكــــًا تامــّا ، إلاّ أننا نحتفل به في تسابيح الربّ بإنشاد الهليلويا خلال خمسين يوما بعد الإحتفال بفصح الربّ ، بدءًا من يوم القيامة ؛ وخلال تلك الأيّام ، إنما نخفّف من أصوامنا . وهكذا ، فالكنيسة تحقّق في صلاتها ، خلال الأربعين يوما ، دعوتها ورسالتها في الزمن الحاضر حيث أعطيت لنا الأبديّة بصورة مُسبقة ، في قوّة فصح الربّ .
الرسول بولس يؤكّد أن الله أقامنا في المسيح من الموت ، وأجلسنا معه في السماويّات ( أف 2 : 6 ) . أمــّا الآن فإننا نرى ، والقول هو للمعلّم الإسكندريّ أوريجانوس ، أن المؤمنين لم يقوموا بعدُ ولم يجلسوا بعدُ في السماويّات . ” إلاّ أنه لا مجال للشكّ في أننا أصبحنا الآن من الجالسين فيها ، ولكن في ” الظلّ ” . مع ذلك ، لم يعد هذا الظلّ ، ظلّ الشريعة ، بل ظلّ النعمة ، ظلّ الربّ القائم من الموت .
هذا التصوّر اللاهوتيّ للتاريخ الذي ترمز إليه الأربعون والخمسون يومـــــًا ، يدعونا إلى أن نترك الروح يقودنا ، لنسيرَ مع الربّ وحده في الصحراء . صحراء العزلة واللقاء مع الله في خلوتنا الروحيّة متجاوزين تحدّيات العالم وتجاربه المتنوّعة . هنا يبدأ زمن النعمة ، حيث الله أبونا يجعل نفسه قريبــًا من شعبه إلى حدّ كبير (دعونا فقط نتخيّل إن كان عشرة أشخاص يعيشون خلوتهم وعزلتهم للقاء الله مجابهين كلّ الصعوبات والمعوّقات ، كم ستتغيّر الأمور ، فكيف إن كنّا ألف أو ألفين أو عشرة آلاف مثلا !) .