إنّ اختبار الصحراء الفصحيّ خلال تلك الأربعينَ سنة يظلّ لنا سرّ انفتاح قلوبنا على ربّ الفصح . فالبحر ينفتح ليتيح عبور ” الفصح ” شعب الله ، وهكذا ينفتح كلّ شيء أمامنا عند موت الربّ . وكما يروي إنجيل متى ، فإنّ الأرض تزعزعت ، والصخور تشقّقت ، وحجابُ الهيكل تمزّق ، والقبور تفتحت وأجساد العديد من الراقدين قامت من بين الأموات . عَبَرَ شعب الله البحر الأحمر فانفتحت أمامه الطريق إلى أرض الميعاد .
أمّا نحن ، فإننا نُقدِم أحيانــا على عرض تلك المسيرة ، كما لو كانت موكب انتصار ، وننسى أنّ الموت طبع عبور الصحراء إلى حدّ بعيد . فشعب الله في الصحراء ، في طريقه نحو ينبوع الحياة ، الذي ترمز إليه أرض الميعاد ، كان عند مفترق بين الحياة والموت . فوراءه أرض مصر ، التي لها ظاهر الحياة الآمنة ، لكنّها في الحقيقة أرض العبوديّة ، وأمامه تنبسط الصحراء ، التي لها ظاهر الموت ، لكنّها ، على نقيض الآولى ، طريق الحريّة . إلاّ أنّ الشعب العبرانيّ لم يكن يستطيع الدخول في فرح أرض الميعاد إلاّ من خلال مروره في ذلك الموت .
فموسى البارّ والقبائل الاثنتا عشرة ، وجب عليهم أن يهربوا من عدوّ يمثّل الحياة الآمنة ، بالرغم من العبوديّة . والشعب كان يتقدّم نحو موت ٍ مجهول ، نحو الموت ، في حين أنه كان يرغب في الحياة ، وكان عليه ، للوصول إلى ينبوع الحياة ، أن يتغلّب على تجربة العودة إلى عالم المظاهر ، الذي تمثّله ، على وجه الخصوص ، بلاد النيل . فـــالخروج هو في الواقع هروبٌ إلى المجهول ، الذي هو الموت في حدّ ذاته .
خلال هذ الاختبار الذي يتناول الكائن في صميمه ، الذي هو اختبارنا ، كما هو اختبار الكنيسة ، فتحَ الربّ الإله عبر الموت طريق الحياة الفصحيّ ، إذ ضبط تهديد البحر القاتل بواسطة حائطي الحياة وبابيها . لذلك ، طلب الربّ من الشعب المختار أن يضعَ فيه ثقته ، وان يعتمد عليه وحده . ” اليوم إن سمعتهم صوته ، فلا تقسّوا قلوبكم كما في مريبة ، وكما في يوم مسّة في البريّة ، حيث آباؤكم جربوني واختبروني وكانوا يرون أعمالي ” (مز 95) .
مقابل قلب الله الذي انفتحَ ليهب الحياة في صحراء النعمة ، وهي صحراء المحنة أيضا ، ارتفعَ قلب الإنسان الموصد القاسيّ بالرغم من أنه رأى الربّ يعمل من أجل خلاصه . ومحنة الشعب الآولى هذه ، خلال الأربعين سنة في الصحراء ، انتهت بالفشل الذريع . لكنّ الله ، وهو الحبّ ، لم يتخلّ مطلقا ، في رحمته ، عن الإنسان ، بعد أن أصبح هذا الأخير فريسة للموت . لذلك ، تعلن الرسالة إلى العبرانيّين : أنّ زمن الفصحَ الجديد قد اقترب ، فعاد الله إلى توقيت يوم هو ” اليوم ” (عب 4 : 6 – 7 ) . وهذا “اليوم” حلّ بيننا مع مجيء كلمة الله ، ابن الإنسان ، والربّ القائم يدعونا إلى المشاركة ثانية ، من خلال ” اليوم الفصحيّ ” ، في الخروج الجديد ، في تجربة الأربعين يومــًا . وهو نفسه أيضا أراد أن يحقّق ذلك الخروج ، بعد عبوره البحر الأحمر ، أي بعد اعتماده ، بحسب ما قاله آباء الكنيسة ، فترك الروح يقوده في الصحراء ، ” أقام فيها أربعين يومـــًا يجرّبه الشيطان ” (مرقس 1 : 13 ) .