فكرة مسبقة عن موضوع الصليب والكفّارة ، يسيء إليه ، ولقد أساءَ ولا زال يعشّش في عقول الكثيرين من المسيحيّين . في أن : هل الصليب هو لإرضاء الله وتسكين غضبه ، بما أنّه ، وبسبب معصية الإنسان وخطيئته ، إنجرحَ الله في العمق ومُسّت عدالته وكرامته ، فكانَ لا بدّ له أن يخمد هذا الغضب ويُعيد الكرامة .. فلا بدّ ، هنا ، من أن يكون التعويض هذا ليس من إنسان خاطيء ، محدود ، بل من الله ذاته ؛ فأرسلَ ابنه من دون خطيئة ، إلهٌ وإنسان ، وصُلبَ ومات ثمّ قام ، فأرجع كرامة الله المفقودة .. نقول بشيء من الفكاهة : هذا ليس الله ، هذا إما يكونُ إلهـــًا مزاجيّا ، ساخطا من البشر ، يشبه آلهة الآوثان ؛ إما القضيّة فلم هندي !!
لا بدّ لنا ، أوّلا ، أن نفهم وندرك أمرًا ، هو أنّ الأناجيل كُتِبت من بعد قيامة المسيح . والنصوص الواردة فيه عن الكفّارة والتعويض والصلبْ هي نصوصٌ وروايات مكتوبة ليست بطريقة السرد الصحفيّ ، من موقع الحدث … بل كُتبت على ضوء القيامة وتسليطه أيضا على العهد القديم ، وبعدَ أن فَهِم التلاميذ شخص يسوع المسيح .
كمثال بسيط ” الكلمة صارَ جسدًا وحلّ بيننا …” عبارة لا يمكننا أن نضعها في خانة النظريّة المجرّدة ، أو في الماروائيّات .. فلا معنى لها بحدّ ذاتها ، ولا يمكننا أن نضعها في قدح العقل البشريّ لتفكيك معناها الكامن . فهذه العبارة التي وضعها لنا يوحنا الرسول في بداية إنجيله ، هي وقبل كلّ شيء ، خبرة عميقة ، معاشة . فهو ، بعد أن لمسَ سرّ الخلاص من قبل الربّ ، وعاينه ، وعاشه ، وتغيّرت حياته ؛ وضعها بإسلوب ٍ نظريّ لكن بدلالة ٍ خلاصيّة! والكنيسة تضعُ العقائد المسيحيّة في تعليمها بإسلوب ٍ رسميّ ولكنّها عاشت العقائد ، فهي ليست نظريّات .
نأتي الآن إلى موضوع ” الخلاص وموت يسوع “ . خلاص المسيح ليس أمرًا سحريّا يصنعه للإنسان ويعيد الكرامة لله التي فقدت وإنتهى الأمر . معلومٌ أنّ يسوع لم يأت ليموت بل ليحيا ويُشرك الإنسان في حياة الله .
ما الفائدة من الصليب ؟ قال القائم من الموت لتلميذي عمّاوس : ” أما كان يجبُ على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده ؟ ” . لماذا ” كان يجب ” ؟ يقول الأب فاريون : حين أرادوا أن يشرحوا ذلك الحدث ، استعانوا أوّلا بالعهد القديم ، وبالضبط بالصيغ الفكريّة التي كانت صيغ اليهود . والحال أنها كانت صيغا طقسيّة وثقافيّة . فالعبادة هي التي كانت قلب الحياة الدينيّة واليهوديّة . العبادة ورتب العبادة (لا عبادة بدون رُتَب) . فاقتنع الرسل ، بعد قيامة المسيح ، بأنّ كلّ ما قيلَ في العهد القديم قد تمّ في يسوع ، لا بل بأنّهم لا يستطيعون أن يفهموا ما كان مقصودًا في العهد القديم إلا إنطلاقا من يسوع . وبناءً على ذلك ، قام القدّيس بولس والإنجيليّون بتفسير الصليبْ ، وبإضفاء معنىً على حدث ” موت يسوع على الصليب في الثلاثين من عمره ” ، انطلاقا من أفكار لاهوت العبادة في العهد القديم . هذا الموضوع الذي يخصّ العبادة طويل .
لماذا الصليبْ ؟! لإنّ يسوع ، الذي كان مرفوضا من الجميع بسبب أعماله وتعاليمه وكلامه عن الله الآب ، ومخالفاته يوم السبت ، إنه بسبب محبّته وحنانه وقربه من الخطأة والمرضى …. أصبحَ مرذولا محتقرًا من الجميع وليس مرغوبًا فيه … ولقد تدّخلت السلطتين الدينيّة والسياسيّة في موته ، ولقد توقّع الموت رجمًا كإرميا النبيّ لكنه صُلبَ . ولكنّه ، من المؤكّد أنه فَهِم موته على أنه موتــًا خلاصيّا من أجل الجميع . فلقد أصبحَ الصليبْ ، هو أداة محبّة الله وعلامة كبرى للتقرّب من الآب بسفك الدم . الصليبُ هو قمّة الحبّ الإلهيّ والإتصال بين الله والإنسان وهذا لا يُدرَك بسهولة أبدًا . الصليب هو قدرة الله الغافرة ، إنه إعادة خلق الإنسان . والخلاص لا يحصل من خلال نظريّات وكلام وتعليم فقط ، بل يجبُ أن يكونَ خلاصا حسيّا ، جسديّا ؛ فداءً للإنسان كاملا . وهناك كلمات كتابية تحدّد الفداء كتحرير : الحلّ ، الخلاص ، الإنتزاع ، الإنقاذ ، الإقتياد . يسوع المسيح هو الفداء شخصيّا ، ولا يمكنُ فصل الفداء عن شخصه وتاريخه . وليس الفداء حقيقة يمكن فصلها عن يسوع وصليبه .
” ليس لأحد ٍ حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه ” (يوحنا 15 : 13) . لقد خلّصنا يسوع في حياته عندما أظهرَ لنا بأقواله وأعماله وفرة محبّة الله . وقد ظهرت تلك المحبّة في أقصى حدودها في موت يسوع . لذلك ، ترى المسيحيّة في موت يسوع قمّة عمله الخلاصيّ وقمّة المحبّة الإلهيّة .
يعطينا البابا بنديكتوس السادس عشر في كتابه الشهير ” يسوع الناصريّ ج2 ” شرحًا رائعا لموت يسوع على أنه مصالحة وخلاص ، لا يسمحُ المجال هنا بوضع كلّ ما قاله إلاّ بعض مقتطفات : ” منذ البدء ، وبشكل ٍ مدهش ، كان هناك أمرٌ واضح ، وهو أنه بصليب المسيح ، تمّ تجاوز ذبائح الهيكل القديمة . قد حصل شيء جديد . إنّ الإنتظار الذي تجلّى في نقد الأنبياء ، وعبّرت عنه المزامير بنوع خاصّ ، قد وجد إكتماله : فالله لا يريد أن يُمجّد بذبائح العجول والأكباش ، التي لا يستطيع دمها أن يطهّر الإنسان ويحلّ محلّه في التكفير . والعبادة الجديدة المنتظرة ، التي لم تكن حتّى ذاك الحين قد تحدّدت بعد ، أصبحت حقيقة واقعة . فبصليب يسوع ، تحقّق كلّ ما حاول الناس الحصول عليه عبثا بذبائح الحيوانات : لقد حصل العالم على التفكير (….) ، نجدُ محاولات مختلفة لتفسير صليب المسيح بأنه العبادة الجديدة ، التكفير الحقيقيّ والتطهير الحقيقيّ للعالم الملوّث … ” ليس إتصال دم حيوان بشيء مقدّس هو الذي
يصالح الله والإنسان . ففي آلام يسوع ، تتّصل كلّ حقارة العالم بالعظيم الطهر ، بنفس يسوع المسيح ، وبذلك بابن الله نفسه . ويقول أيضا في كتابه ” مدخل إلى الإيمان المسيحيّ ” : ” يظهر الصليب في العهد الجديد ، كحركة من أعلى إلى أسفل وليست عمل مصالحة تقدّمه الإنسانيّة إلى إله ٍ ساخط ولكنها تعبير عن حبّ لا يطوله الإدراك ، عند الله الذي يُعطي نفسه ويتواضع ليخلّص الإنسان … ” . البابا يربط بين موت وخلاص المسيح بسفر العبرانيّين . وهنا لا يمكننا ، الآن ، أن نعطي كلّ التفاصيل الدقيقة لشرح الموضوع ، فهذه تحتاجُ لدراسة مطوّلة.
يسوع خلّصنا بتجسّدة ، وبأعماله وتعاليمه ومعجزاته ، وقمّة الخلاص حصل بموته وقيامته ؛ لأن الله كشف سرّ محبّته الخلاصيّة للعالم أجمع ، وحصل ، بدم يسوع المهراق (رمز المحبّة اللامتناهية والإتصال والعهد بين الإله والإنسان) ، الإتمام الكامل للكشف عن سرّ الله المحجوب . فيسوع هو الفداءُ شخصيّا والخلاص ذاته ، لإن إسمه ” الله يخلّص ” .