عندما أقرأ هذا النصّ ، أصابُ بالرعب والخزي . رغمَ أنّ يسوع يتكلّم عن اليهود المولودين من الآباء الموعوديين بهذا الملكوت. لكنّه ، أيضا ، ينطبقُ علينا اليوم .
يعطي (كلود تاسان – المفسّر البيبلي الفرنسي – تفسير راعويّ لإنجيل متّى ) شرحه للمعجزة ويقول : ” كان المصدر ” Q ، تلك الوثيقة التي كانت في حوزة متى ولوقا ـ جعل من بطل المشهد ضابطا رومانيّا . وفي طبقة من التقليد أكثر قدما ، كان الحديث عن موظف يهودي ( يوحنا 8 : 46 ) . أمّا لدى متى ، فلم تعد فيها ملامح رواية . ذلك أنّ الراوي يختفي لصالح حوار طويل بين شخصين . وبوسع مخرج سينمائيّ أن يقطّع القصة إلى خمسة مشاهد متتالية ”
1 – الآيات 5 – 7 : مشهد مركّز حول يسوع وقائد المئة . وفي نهاية الحديث ، تبدو القضيّة قد حُلّت .
2 – الآيتان 8 – 9 : مشهد مجسّم لقائد المئة الذي يُطلق الحوار من جديد ، كاشفا عن عمق إيمانه : لا حاجة ليسوع أن يتعب ، بل ليعمل عن بُعد ! فلقد قال ما معناه : سلطتي محدودة ، غير أنّ بوسع كلمتي أن تحرّك ، لدى جنودي ، الركبتين ( ” إذهب ” ) ، والذراعين ( ” إفعل ” ) ؛ فكم بالحريّ ، إذن ، كلمتك أنتَ ؟!
3 – آية 10 : وتعودُ الكاميرا نحو يسوع ، وقد اتّجه نحو ” الذين يتبعونه ” ، أي تلك الجموع التي نزلت معه من الجبل . وها هو يعبّر عن دهشته : ذلك أنّ تلك الثقة المجانيّة ، من غريب لم يكن يعرفه ، لم يجد مثيلها لدى هؤلاء الذي أرسلَ إليهم ، وقد سمعوه ورأوه يعمل . (يبيّن هذا الأمر ، في زماننا اليوم وعند الكثيرين ، اللامبالاة تُجاه الإيمان المسيحيّ وعدم الإهتمام بالروحانيّة والعلاقة مع الربّ ، وقلّة الثقة والأمانة ) .
4 – الآيتان 11 – 12 : بوسع الكاميرا (يقول كلود تاسان ) ، الآن أن تتبع نظرة يسوع ، وهي تتجّه نحو أفق ٍ بعيد : في آخر الأزمنة ، سيدعو الله البشريّة . وسيأتي وثنيّون من كلّ مكان ” من المشارق والمغارب ” ـ ويدخلون إلى الملكوت ، كما إلى قاعة ، حيث يحتفلون بقيامتهم ، مع الآباء ابراهيم واسحق ويعقوب ، بينما قد يصبح وارثو الملكوت الطبيعيون ، أي اليهود (حرفيّا : أبناء الملكوت ) ، خارجا عن العيد ، ونشتشفّ ذلك لأنهم لم يؤمنوا بالذي أرسله الله .
5 – الآية 13 : ونجدنا هنا بإزاء المشهد الأخير الذي يسلّط الضوء على يسوع وقائد المئة . فهذا القائد اعترف عفويّا بالسلطان الذي اختصّه يسوع في العظة على الجبل . وثقته ، هي التي استحصلت له الشفاء المطلوب ” في تلك الساعة ” ، وعن بُعد .
يقولُ الإنجيليّ متّى 8 : 5 ، أنّ يسوع لمـــّا دخل كفر ناحوم ، دنا منه قائد المئة (والذي كان واليًا في كفرناحوم على الرومانيّين كما يظهر من لوقا 7 ) . يقول لوشيوس دكستر ، أنّ هذا كان كورنيلوس القائد أبا كورنيلوس القائد الذي كان حارسا عند صليب المسيح ، وإذ رأى الآيات وقتئذ ٍ ، آمن بالمسيح ، وكلاهما أنذرا بالإيمان في اليهوديّة وإسبانيا . ولقد دنا هذا القائد من المسيح أوّلا ، بواسطة شيوخ اليهود . ثانيا ، بواسطة محبّيه كما روى لوقا 7 ، وثالثا ، بنفسه كما يبانُ من الآية 8 ، إذ كان قريبا من بيته . يمثِّل هذا جماعة الأمم التي كانت تعاني من العذاب خلال هذا العبد الأسير لعدو الخير ، وقد أظهر الأمم إيمانا أعظم ممَّا لليهود ، مع أن السيِّد لم يظهر بالجسد في وسطهم كما ظهر وسط اليهود ، إذ حلّ بينهم كواحدٍ منهم بتجسُّده من القدّيسة مريم . وعجبا هنا ، في هذه المعجزة ، نرى أنّ غريب الجنس يكونُ مرغوبا فيه عند الله وفي ملكوته السماويّ (الوليمة السماويّ ) ، أكثر من أصحاب الوعود والمواعيد . ويريدُ الإنجيليّ هنا يشعرنا بدقّة الإبرة الحادة في قلوبنا، بأنّنا لا يجبُ أن ننغرّ أبدا بأننا ” ضامنون للملكوت ” ! . فقد يأتي ” الوثنيّ الغريب الجنس ” ، ويجلسُ على موائد الملكوت ، وأبناءُ الملكوت يُطردون خارجـــًا ، حيث البكاء والظلام .
من حيث أنّ الملكوت السماويّ يشبّه متواترا بوليمة ، ومن عادة الوليمة أن تكون غالبا وقت العشاء ، ففي الكتاب المقدّس قلّ ما ورد ذكرُ الفطور للولائم . فالقدماء كانوا يؤخّرون التنعّم بالولائم إلى المساء للتفرّغ من الأشغال . وقد ذكر هذه العادة عند اليونان إكليمنضوس الإسكندريّ . وذكرها عند الرومانيّين بلوطرخوس . وكانوا في الوليمة يكثرون الأضواء بينما يكون خارج الوليمة ظلمات دامسة .
يسوع يأتي إلى ” بيتنا الداخليّ – قلبنا العميق ” ، ليُشفي أمراضنا وأسقامنا ويُطهّرنا من كلّ شرّ . لا يكون فرحُ الربّ يسوع عظيما إذا دخلَ إلى بيتنا وأغلقنا قلبنا له . إنه سيّد التواضع ويريد أن يسكن في قلوبنا ، فلا بدّ لنا أن نفتح له إنسدادَ قلوبنا وتحجّرها بوضعها أمام النور الحيّ ، النار الحارقة ، قوّة النعمة الإلهيّة . فأيّهما نريدُ : أن نكون على مائدة الملكوت السماويّ (وليمة الربّ ) ، فرحين ، ممتلئين نعمة .. أم نريدُ كهذا الذي يدور ويدور جول البيت يبحثُ عن فتحة ليدخل منها للوليمة ولا يستطيعُ ، إنه يقبعُ في برودة الظلام المؤلم متحسّرا . نعم ، إنّ جهنّم (البكاء وصريف الأسنان ) ، ستكون برودة قاسية أكثر ممّا هي نارٌ تصوّرها لنا الأفلام الهوليوديّة .