الوقاحة إسم مشتق من الفعل الثلاثي “وقح” الذي يعني “قل حياؤه واجترأ على فعل القبائح…”. فنحن اليوم في أيامنا هذه، نجد أمامنا أشكالا عديدة وخطيرة من ثقافة الوقاحة، أخطرها الإرهاب الإيديولوجي الفكري، حيث جعل من المنكرات فضائل ومن القيم موبقات!!! إذا كيف تعامل الكتاب المقدس مع تلك الثقافة الخطيرة؟
1- الوقاحة موقف داخلي
الوقاحة بحسب تعليم الكتاب المقدس، هي رفض الشعب المؤمن السماع إلى كلمة الرب، وتمنّع علني في قبولها والعمل بمقتضياتها، ورفض صريح في حفظ الوصايا والفرائض الصادرة من فم الله (راجع تث28: 15). الوقاحة، هي موقف باطني يطال قلب وعقل وإرادة الإنسان، تتصف بالمعاندة، فصاحبها يرفض الإستسلام للرب، مفضلاً السير بحسب غرائزه وميوله وشهواته. إن الشعب الوقح، هو من رفض أن يعبد الرب الإله، بفرح وطيبة قلب، فتنطبق عليه صفة الشعب” الناكر الجميل” (تث28: 47). أما الشعب الوفي والمخلص لسيد القيامة، هو من يفرح بقيامة الرب المنتصر على وقاحة الموت في كافة أشكاله.
2- عواقب الوقاحة
عديدة وكثيرة هي عواقب من يقبّح وصايا الرب، ويجعلها هذيلة أو غير مجديّة، لا بل يعمل على تسخيفها لدى الناس البسطاء. أما عاقبة الوقح فهي كثيرة، فهو يصاب ب”اللعنة والذعر والبلاء” (تث28: 20)، تتحقق في فقدان البركة المادية والروحيّة والمعنويّة، لأن من يتخلّى عن بركة الله، يصيبه الفناء والتشتت والوباء يأكله أكلاً (تث28: 21- 22). وأهم تمظهرات الوقاحة “الجنون والهذيان وعمى القلب…” (تث28: 28) والغباء وقلّة الفهم في اتخاذ القرارات المناسبة. أما كل ما يفعله القبيح، يذهب سدى وثماره إلى غيره من الناس (راجع تث 28: 38- 39). فتندثر كرامته، ليحل مكانها ذهنية “عقدة الذنب والدونية وعدم تقدير الذات” ف”يزداد الغريب الذي فيما بينكم استعلاء، وأنتم تزدادون انحطاطاً…” (تث28: 43). فتصبح حياة الوقح في عوز دائم واستقراض لا ينتهي، فيتحوّل موضعه ومكانته في الجماعة من الرأس- القمة، الى أسفل الجسم أي ” الذنب” (تث28: 43) فيخسر الإحترام والتقدير… حتى حياته يجعلها الرب في حالة قلق، إنه رعب الموت المنتظر لأن الرب يجعل في الوقحين “قلوباً مضطربة وعيوناً كليلة ونفوساً بائسة ” (تث28: 65) وتصبح حياتهم كالريشة في مهب الريح معلّقة بين الموت والحياة بين الصحة والمرض بين العوز والفقر، إنه الرعب المقدّس (راجع تث28: 66). هذا الرعب يجعل الوقح في حالة توتر نفسيّ ومعنويّ وجسديّ دائم، لما يرى ويشاهده بأم العين، من أهوال تحدث أمامه، الى درجة أنه يفقد كل أمل في الحياة (راجع تث 28: 67). الوقح هو دوما فاقد للرجاء، لا توجد لديه فكرة يوم الأخير.
فمن يتخلّى عن الله يرذله الله (راجع تث 28: 68).
3- الوقاحة والإضطهاد
بلغت وقاحة رؤساء اليهود “السلطة الدينية” مع جنودهم “السلطة العسكرية” أن يقبضوا على يسوع، ممارسين عليه أبشع أنواع الضرب واللطم والشتائم والإفتراءات. وهناك واحداً من بين هؤلاء الجند الوقحين، تجاسر بوقاحته العلنيّة، بلطم يسوع على خده، لأنه انزعح كيف يسوع دافع عن نفسه (يو18: 19). فأمام وقاحة الجندي، يرد عليه يسوع بجرأة وحزم قائلا له: “إن كنت أخطأت في الكلام، فقل اي أين الخطأ؟ وإن كنت أصبتُ، فلماذا تضربني؟” (يو18: 22) من هذا المنطلق نفهم حقيقة الجرأة المقدسة، التي هي وحدها من تلطم أوجه الوقاحة، فعلى تلاميذ يسوع، ألا يرتعبوا في تأدية الشهادة الحقة في قول الحق، لاسيما أمام الوقحين، حتى لو اضطهدوا علانية وخفية وافتري عليهم بالزور، هذا واجبهم اللاهوتي والأخلاقي، أن يواجهوا دوما بقدرة الروح، وقاحة الأشرار، بجرأة لا تعرف الخوف، لأنهم منذ الآن تحرروا من الخوف لان الرب سيدهم.
إن الوقح، بحسب القديس يوحنا، هو من فقدَ حس التمييز الصحيح، وبالتالي لم يعد يجيد صوابية الأمور وقراءة الأحداث بتمعن ورويّة، ويحارب الحق علانية دون اي رادع. فالوقح لقادر ان يُسلم يسوع كيهوذا الإسخريوطي وأن يلطمه كالجندي الوقح وأن يصلبه كرؤساء الشعب الوقحين، من خلال اضطهاده للمؤمنين.
4- رأي بطرس الصخر في الشخص الوقح
أوصى بطرس الصخر كنيسته، بالإنتباه اليقظ من لأنبياء الكذبة، وكم كانوا كثر في زمانه، الذين ابتدعوا لهم “المذاهب المهلكة وينكرون الرب الذي افتداهم…” (2بط 2: 1- 2) فقد نعتهم القديس بطرس بالفاجرين الطماعين الذي يزيّفون الحقيقة ويتاجرون بالناس وبكلمة الحق (راجع 2بط2: 3) لكن الرب لا يغمض له عين، إلاّ ويجري حكم القضاء والهلاك، على أمثال هؤلاء الوقحين. انذهل بطرس وتعجب من وقاحة وكبرياء هؤلاء الأنبياء الكذبة الذين “لا يتورّعون من إهانة الكائنات السماويّة المجيدة…” (2بط2: 10).
٥- ولكن لماذا هذه الوقاحة مستشرسة في قلوب هؤلاء؟
بحسب القديس بطرس، لأنهم، يشبهون بحالة الوحوش المفترسة “المولودة بطبيعتها للصيد والهلاك” (2بط2: 12) لقد صدق المثل الشائع “طق فيهن شرش الحياء” إذ “يحسبون اللذة أن يستسلموا للفجور في عزّ النهار” (2بط 2: 14) “على عينك يا تاجر”!! مهووسون بالفطرة في ممارسة فن الخداع “لهم عيون مملؤة بالفسق…
يخدعون النفوس الضعيفة، وقلوبهم تدرّبت على الطمع. هم أبناء اللعنة” (2بط 2: 15) و”إنهم ينابيع بلا ماء وغيوم تسوقها الريح العاصفة… يخدعون بشهوات الجسد والدعارة من كادوا يتخلّصون من الذين يعيشون في الضلال. يعدونهم للحرية وهم في أنفسهم عبيد للمفاسد، لأن ما يغلب الإنسان يستعبد الإنسان” (2بط2: 17- 18).
خلاصة روحية
يبقى الكتاب المقدس- خبرة الآباء القديسين، مقياس تميزي يساعدنا في كشف ثقافة الوقاحة في
عالم اليوم. فلكي نتجنّب فكر الخداع، يوصينا القديس بطرس، بالتدرّب على اليقظة الروحية، وذلك بالسهر ليوم الرب، أي بعيش حياة فاضلة ترضي الرب. إنه الهدف الأساسيّ والقضية الجوهرية لكل مؤمن أراد أن يتبع يسوع. فشعب القيامة مدعو، بألاّ يخاف من ثقافة الوقاحة المستشرية في المجتمعات، لذا، عليه، أن يحقق جرأة التلاميذ الشهداء، بامتلاك معرفة صحيحة تسهم في مقاومة أفكار الوقاحة وشجبها وفضحها فكلمة الرب، هي القوة التي ننالها، وبها ندك أسوار قباحة وأفكارها وميولها وعاداتها، وذلك بجرأة الحياة المسيحية التي غلبت الموت بمحبة يسوع القائم