رغمَ أنّ إنجيل متّى يذكر ممسوسان خرجا من القبور ، ولوقا ومرقس يذكران أنه كان ممسوس واحد . رواية مرقس هي معقدّة بهذا الخصوص . أمّا متى ، فإنه يضعنا بإزاء ممسوس واحد ، وبالتالي ، تتّسم روايته بالبساطة .
لا يهمّ إن كان ممسوس واحد أم اثنين ، فالقضيّة ليست في كم ممسوس كان ! ، بل علينا أن نضعَ تركيزنا أكثر في معنى ” التبعثر الإنسانيّ ” ، أو ” التمزّق ” ، فإنّ الإنسان هذا مسكونٌ من قِبل أرواح شريرة ، فهو خرجَ من القبور (تلك المغاور التي تستخدم للدفن) . والإحتكاك بالموتى هذا يجعل منه أكثر نجاسة في نظر الشريعة اليهوديّة . وكانت مقابر اليهود متّسعة ومسقوفة وعلى هيئة بناء مستدير حتى يمكن أن يدخل إليها كثيرون .
في زمن يسوع ، كانت بحيرة الجليل ( بحر ) تشكّل حدودًا بين أرض اسرائيل في الغرب وبين العالم الوثنيّ في الشرق . و ” الديكابوليس ” ، إنّما هي اتحاد ” عشر مدن ” غير يهوديّة ، من بينها جيراسا ، على بعد 60 كم إلى الجنوب الشرقيّ من البحيرة (وهي اليوم جرش في الاردن) . وكان التقليد قد حدّد المشهد على الضفة الشرقيّة من البحيرة ، في المكان المدعو كورسي ، حيث عُثر على آثار دير بيزنطي .
الشاطئ الآخر من البحر .. وصل يسوع والتلاميذ إلى ناحية الجرّاسيّين .. هي ناحية وثنيّة صرفْ . وكما نعرف أنّ البحر يرمزُ إلى الشرّ والموت . فيسوع والتلاميذ وصلوا إلى منطقة ” الشرّ والموت ” . ونحنُ كالتلاميذ ، عندما نصلُ إلى هكذا مناطق ، نصابُ بالفتور ولا نقدر على فعل شيء ، إلا بنعمة ٍ من الربّ . تلقّاه يسوع ، وقد طرح عليه سؤالا : ما هو أسمك؟ فقال له : لجيون (التي تعني جيش أو فيلق) . الإسم الذي يفصح عنه الشيطان ، إنما هو اسم جيش الإحتلال ؛ وكانت الفرقة الرومانيّة تعد 6000 رجل . فكان على يسوع أن يقود معركة كبرى ضدّ قوة الشرّ التي كانت تستعبد البشريّة ، كما كان الرومان قد احتلّوا أرض اليهود .
يرمز الرجل الممسوس بروح نجس إلى العالم الوثنيّ المستبعد لقوى الشرّ . ونحنُ لا نقدرُ أن نستبعدَ البشريّة الآن بسكناها من الأرواح النجسة اليوم ، وعباداتها الوثنيّة الصمنيّة ( المال ، الجاه ، اللذّة ، الجنس ، المتعة ، الرفاهيّة ، الكذب ، التشرذم ، الإنقسام والتبعثر ، والإنفصال عن الله ) . إنسان اليوم إنسانٌ مُستَلب الإرادة . عديمُ القناعة ، عديم القرار ، تائه وضائع في أوهامه . إنسانٌ منقسمٌ على ذاته متشرذم . يعيشُ في قبور العالم المكلّسة المتصدّئة . متهوّر ، الإنجيل يقول عنه : لا أحد يقدر أن يضبطه (مقيّد بسلاسل واقعه المرّ ) . كأنه كائن فقد إنسانيّته ، وأصبحَ مرتعا للشياطين . أفعاله هي أفعال ابليس ، نميمة ، حقد ، حسد ، ثرثرة ، كبرياء ، تعجرف …. الخ .
يحتاجُ ممسوس اليوم إلى لقاء يسوع له . يحتاجُ للمسة النعمة الإلهيّة . لكن ، ما هي قضيّة الخنازير هنا التي غالبًا ما تثير تساؤلات كثيرة ؟! نرى أن الأرواح توسّلت بيسوع أن تلقى في قطيع الخنازير . وبعد أن ألقاءها يسوع في الخنازير ، هرعت الخنازير إلى البحر . نستطيع ، قبل أن ندخل في العمق ، أن نرى هنا موازاة ذات إيحاء بين تسكين العاصفة وبين طرد الشياطين :
قوّة خارقة تقهر : البحر الهائج ، والممسوس الذي يقطع السلاسل
كلمة يسوع النافذة : أسكت ! أخرج
النتيجة : هدوء كبير
رمزيّة البحر تذكر بمعجزة البحر الأحمر ( خروج 14 ) حيث ، بكلمة الله ، غرق المصريّون الغاشمون في البحر كي ينجو من اسرائيل . يصرف يسوع الوثنيّون بعد أن تعرّضوا لخسارة فادحة ! ذلك ولا شكّ لأنهم لا يرغبون في خلاص يخرجهم من عالمهم الإعتياديّ . نرى أن هلع القطيع ، في الفكر الشعبيّ ، صورة لهزيمة الشرّ . فبالنسبة إلى اليهوديّ ، يرمز الخنزير إلى النجاسة وإلى الوثنية (2 مكابيين 7 : 1 ) ، ولا نجد قطعان الخنازير إلاّ في أرض وثنيّة . ففي منطق الرمز ، كان من الطبيعيّ أن تسكن الشياطين في هذه الحيوانات وتنجرف إلى البحر . هكذا يكون يسوع قد انتصر ، مضاعفا ، على المياه المخيفة : بتسكينه البحر ، وبإهلاكه الأرواح الشريرة . إنّ يسوع هنا ، هو رسول الملكوت . هذا ما عرفه التلاميذ واختبروه . لكن ، المعركة ما زالت قائمة . إلى أن نصل إلى الصليب.
لا يجب أن نقرأ هذا النصّ بحرفيّة أصوليّة ، لأننا لو فعلنا ذلك ، فلن نفهم شيئا . لكن ، إن أردنا أن نترجمه اليوم بلغة ” الوحدة – الوحدانيّة ” . الإنسان قادر على أن يكون لا شريرًا واحدًا واثنين ولا ثلاثة فقط ، لكن فيلق أشرار . بحيث اليهود الذين يعتبرون الخنازير نجسين – وفي ذلك الوقت في اسرائيل ، لا يمكن أن نرى 2000 خنزير – وإذا رأينا الآن في الدول الأوربيّة التي تأكل خنزير ، قليل جدا شركات لها ألفين رأس خنزير ! .
يريد الإنجيل أن يقول لنا هذا الأمر المهمّ : الإنسان البعيد عن الله ، المنفصل عن الله ، المبعثر والممزّق ، يمكن أن يجمع في ذاته شرّ يكفي لـــ 2000 خنزير ، ويلقيها في البحر وزيادة ! هذا النوع لا يخرج إلاّ بالصوم والصلاة ، يقول يسوع . الإنسان يحتاج إلى شيء ” يُلملمه من إنقساماته وتشرذماته ” ، يحتاجُ إلى حبّ ومعرفة . لكن ، الإنسان الفارغ من الحبّ والمعرفة والتأمّل والعلم ، من هو الذي يجمعه ؟! يجب علينا الحذر من الفراغات في حياتنا . الطبيعة تكره الفراغ . إن خرجت الشياطين من الإنسان ، وبقيَ الإنسان فارغا ، فسوف تأتي الأرواح وتسكن فيه وتكون نهايته أقبح من بدايته . مشكلة الشرّ هي مشكلة فراغ الإنسان . والكثير من الناس يعيشون في فراغ وتفاهة . حضارتنا هي حضارة الوقت الفارغ . أوليس واقعًا الآن ، أن نرى الكثير من الناس الذ
ين لا عمل لهم سوى الكلام عنا الناس ، ثرثارون ، نمّامون ، سطحيّون .. لا لقاءَ حقيقيّ ولا حوار أصيل . لا بل يجعلون من الطرف الآخر مثلهم وصورة لهم .
نحتاجُ إلى لقاء مع يسوع ، كهذا الممسوس المقيّد والمستلبْ التائه الممزّق ، بأن نتوحّد بالمعرفة والحبّ ونتصالح مع ذواتنا بأن نرى حقيقتنا العميقة بعين يسوع .