ولكن ماذا يكتشف الإنسان عندما يعرف ذاته؟ ماذا وراء هذا الـ “اعرف نفسك”؟
بالنسبة للفلاسفة الأقدمين، كان تحريض “اعرف نفسك” يعني النظر في محدودية الوجود البشري وهشاشته[1]. وهناك حكمة لا شك فيها في هذا الأمر. فمن يتعرف على حدوده يستطيع تجاوزها؛ من يعرف أنه لا يعرف، ينفتح على المعرفة. هذه هي مفارقات قوة الضعف والجهل الحكيم (docta ignorantia).
وماذا عن الكتاب المقدس؟ الكتاب المقدس أيضًا يحدثنا عن محدودية وفقر الكائن البشري. ولدينا تذكارًا ثابتًا في الليتورجية في كل اثنين (أو أربعاء) الآلام: “اذكر يا إنسان أنك تراب وإلى التراب تعود” (تك 3، 20). غالبًا ما يقارن الكتاب المقدس الإنسان بالعشب الضعيف: “الانسان مثل العشب ايامه. كزهر الحقل كذلك يزهر. لان ريحا تعبر عليه فلا يكون ولا يعرفه موضعه بعد” (مز 103، 15 – 16). حياة العشب قصيرة وضعيفة لأنه ” بالغداة يزهر فيزول. عند المساء يجز فييبس” (مز 90، 6). ويُقارن ضعف الإنسان مرارًا بهشاشة العشب، فيهتف أشعيا مثلاً: “صوت قائل ناد. فقال: بماذا انادي؟ – كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل” (أش 40، 6؛ راجع يع 1، 10؛ 1 بط 1، 24).
كما ويُشبّه الإنسان “بحلم الصبح” القصير (مز 90، 5) وحياته مثل “ظل” و “نفخة ريح” (راجع مز 39، 6 – 7؛ يع 7 ،7). وهناك تقارب قوي في العبرية بين النفخة والباطل (هِبِل) وهو يعبّر بشكل بليغ عن فقر الحياة البشرية: ” باطل بنو ادم.كذب بنو البشر.في الموازين هم الى فوق.هم من باطل اجمعون” (مز 62، 10). هذه اللازمة تشكل أرضية تفكير سفر الجامعة حول الكائن البشري ومعنى حياته.
إلا أن فقر الكائن البشري ليس الإطار الوحيد الذي نراه في الكتاب المقدس. فغنى النظرة الكتابية بشأن الإنسان تظهر بسعتها في قصتي الخلق في الفصلين الأول والثاني من سفر التكوين. فالإنسان نفسه المجبول “من تراب الأرض” (راجع تك 2، 7) هو مخلوق “على صورة الله” (راجع تك 1، 27). ويقول لنا كتاب الحكمة: “لقد خلق الله الإنسان لعدم الفساد، وجعله على صورة طبيعته” ( حك 2، 23؛ راجع سير 17، 3). ولهذا يندهش صاحب المزامير كيف أن الله، في هذا الكون الشاسع، يحمل في قلبه بشكل خاص الإنسان: “ما هو الإنسان حتى تذكره، وابن الإنسان لكي تعتني به؟”. فالإنسان أقل من إله بقليل وهو مكلل بالمجد والكرامة (راجع مز 8، 5 – 6).
مجمل القول أن الإنسان قد خلق من الله لأجل المجد، لأجل مجد لا يزول، بل لأجل مجد ملكوت الله الأبدي (راجع مز 145، 12). خلق الإنسان لكي يكون شريكًا في حياة الله نفسه، في حياة حب الثالوث الأقدس. هذه الدعوة العظيمة كانت رفيقة أناشيد المسيحيين الأولين كما يذكرنا بولس الرسول: “لقد اختارنا الله في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم أمامه في المحبة” (أف 1، 4).
ما معنى كل هذا في التساؤل حول الدعوة؟ – قبل أن نختار هذه أو تلك الدعوة، يجب أن نذكر أن دعوتنا الأولى هي هذه، وأن كل خياراتنا الحياتية يجب أن تسير نحو العيش بنعمة الحب هذه.
(يُتبع)
[1] Cf. G. Reale, Socrate. Alla scoperta della sapienza umana, Rizzoli, Milano 2007, 49.