تحدثنا عن معنى “فلنخلق الإنسان”، ولكن ما معنى التعابير التالية: “على صورتنا ومثالنا”؟ هل هما مجرد مرادفان وضعا واحدًا بجانب الآخر؟ أم أن هناك مسيرة من الواحدة إلى الأخرى بحسب ما فهم الكثير من الروحيين؟ وما هي هذه المسيرة؟
هي مسيرة نسير فيها لنضحي الله! بكلمات أكثر وضوحًا، تتألف المسيرة بأن نضحي شركاء بالطبيعة الإلهية، بحسب تعليم رسالة بطرس الأولى (1 بط 1، 4). وهنا أيضًا يقدم لنا آباء الكنيسة أفكارًا عميقة، تظهر عجبهم الكبير أمام الجِدّة المسيحية. فيكتب القديس باسيليوس: “الإنسان هو خليقة تلقت الدعوة لكي تضحي الله!”[1]. من ناحية أخرى، يعتبر القديس افرام السرياني أن الغاية من الخلق هو العرس الروحي بين الخالق والخليقة، وبلغته الشعرية يكتب في أحد الأناشيد حول عدن بأن كان في الجنة خدر سماوي[2]. ويقرأ كنّارة الروح القدس كل تاريخ الخلاص في إطار هذا الرباط الزوجي بين الخالق والخليقة الذي يعمل الله دومًا على عقده، بينما تقاوم الخليقة بسبب خطيئتها وانغلاقها، إلى أن يُتم المسيح الخطوبة مع الخليقة في الأردن والعرس على الصليب.
نرى هذه الدعوة في آيتي سفر التكوين 1، 26 – 27 من خلال كلمتين: الصورة والمثال. التعبير الأول (’سِلِم‘ بالعبرية) يعني الصورة الخارجية، بينما التعبير الثاني (دِمُت بالعبرية) هو أكثر تجريدًا ويعني “المشابهة والمطابقة[3]. الكلمة الأولى تعني هبة أن نكون بشرًا. أم التعبير الثاني فيعني مهمة الأنسنة الموكلة إلينا، مهمة تكتمل في التأليه (Theosis).
هذا ويعتبر القديس مكسيموس المعترف أن الصورة هي “خير طبيعي”، بينما يعتبر المثال “خيرًا إراديًا”[4]. ويلخص هنري دو لوباك، وهو بحاثة في مجال علم الآباء، التقليد المسيحي بهذا الشأن هكذا: “في الخليقة البشرية، الصورة هي الهبة التي نتلقاها بمجرد أننا موجودون. أما المثال الإلهي فيجب تحقيقه تحت عمل الروح القدس، باتكال تام على الجسد الفادي، من خلال الاقتداء بالمسيح، بواسطة الاتحاد بالمسيح، حيث يتم سر الوحدة مع الله. التوق الصوفي هو كامن في الطبيعة البشرية، لأن الإنسان خُلق لهذا الاتحاد”[5].
يعلمنا ترتليانس أن النفس هي مسيحية بطبعها (Anima naturaliter christiana[6]). كيف يجب أن نفهم هذا التعبير؟ بالطبع هو لا يعني أن الأشخاص، رغمًا عنهم، يجب أن نعتبرهم مسيحيين وأن نقرأ وجودهم من هذا المنطلق، بل بمعنى أن النفس البشرية مطبوعة بملامح الكلمة الإلهي. ومن خلال “الوصول إلى ملء المسيح” (أف 4، 13) يحقق الإنسان إنسانيته لأن كل من يتبع المسيح، ويعيش مقتديًا به “يضحي إنسانًا أكثر”[7]. ففي المسيح خُلقنا وتم اختيارنا بشكل مسبق لكي نكون قديسين وأنقياء في الحب (راجع أف 1، 4؛ روم 8، 29). وبما أن الله محبة، “من يقيم في المحبة، يقيم في الله ويقيم الله فيه” (1 يو 4، 16).
غاية الإنسان، إذًا، هي أن يتحد بالله، أن يعيش حياة الله وهذا الأمر يتم عندما يبدأ الإنسان بعيش الحب الحقيقي. فعندما نُحبّ، ندخل في حياة الله، ندخل في “رقصة” (perikóresis) الحياة الثالوثية المتمثلة بالحب المُعطى والحب المقبول. وعندما يعيش المرء حياة حب، يعكس على وجهه كما في مرآة مجد الله ويتحول إلى صورته من مجد إلى مجد بحسب عمل روح الرب ( 2 كور 3، 18).
لهذا وبكلام مُبسط، المسافة بين الصورة والمثال هي فسحة تحقيق حريتنا، فرصة تحرير حريتنا. من يضحي مماثلاً إلى الله يضحي مُحبًا، يضحي فرحًا، يضحي حرًا. فالحرية ليست الانفلاش، بل هي المطابقة بين إرادتنا وبين الخير الأسمى.
يقول الإنسان بين العدم والمطلق وبامكانه أن يقوم بالخيار الكبير الذي يبدل حياته. ويحدثنا الرب في سفر التثنية عن هذه الامكانية العظيمة المتاحة أمامنا: “اشهد عليكم اليوم السماء والارض. قد جعلت قدامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا انت ونسلك” (تث 30، 19). وابن سيراخ يكتب: “أمام البشر الحياة والموت: وكل سينال ما يختاره” (سير 15، 17).
مسيرة الحرية هي تحويل قدرة خيارنا إلى حرية. في هذه الحرية المُحرّرة تبدأ مسيرة سيادة الإنسان ومماثلته لله.
[1] Citato in P. Evdokimov, La connaissance de Dieu selon la tradition orientale. L’enseignement patristique, liturgique et iconographique, Desclée de Brouwer, Paris 1988, 30.
[2] Efrem, Inni sull’Epifania 13,4.
[3] Cf. A. Wénin, Da Adamo ad Abramo, 28.
[4] Cf. Massimo il Confessore, Capitoli teologici ed economici I, 13.
[5] H. de Lubac, Mistica e mistero cristiano, Jaca Book, Milano 1979, 19.
[6] Tertulliano, Apologetico 17,6.
[7] Gaudium et Spes 41.