احتفلنا قبل أيام بحدث القيامة ، وكل عام ، والقرّاء الأحبة بألف خير. حدث القيامة حدثٌ
سماوي، أثبت إيماننا في مسيرة إنسانيتنا بعد أن شوّهناها بخطيئتنا ومسيرة فسادنا وكبرياء صداقاتنا ومصالح أنانياتنا وحقد غيرتنا وبغض أفكارنا وقتلنا أبرياء الحقيقة، إنها الإنسان العتيق كما يقول بولس الرسول، فكانت القيامة ، الإنسان الجديد (افسس 24:4) الذي فيه يتنازل كبير الزمن ويتّضع ويطلب الغفران من فقير الحياة، ويعلن أمام الجميع أنه لا يستحق شيئاً، بل ومهما كان مستحقاً فليس ذلك من فضله بل من مشيئة رب السماء… إنها دعوة ليظهر بياض أفكاره وحقيقة محبته وفساد صداقته وزيف ثرثرته وما ذلك إلا حقيقة القيامة في زمن عولمت الدنيا مسيرتها بفساد حامليها وطغى الشيطان واستعبد العالم والقلوب والشعوب، ومهما كان فالله خير العابدين ، ليس إلا!.
بعد مائة عام :
السادس من آب 2014، يوم ليس كبقية الأيام وليلة ليست كبقية الليالي، يوم الإبادة بليلها، لا يمكن أن ينساه المرء من أهل سهل نينوى ومواطني القرى المسيحية المسالمة والمكونات الأخرى، فيه تعرضوا إلى طرد ونهب وتهجير وقتل في إبادة جماعية لم يسجل مثلها التاريخ إلا قبل مائة عام حيث الإبادة الأولى (1915-1917)، التي أودت بحياة مليوني مسيحي بأرمنه وبمكوناته. فبعد مائة عام لا زال شعبنا المسيحي يدفع ضريبة الوجود والحياة، ضريبة الحمايات والسياسات البائسة، والنهج الأصولي المقيت، وبسببها أضعنا حتى مقدساتنا بأحجارها ومعابدها وهياكلها وأصبحنا حَمَلاً نُذبَح متى يشاؤون إلى أن أوصلونا إلى داعش الإرهابي وأقرانه البائسين الذين تفننّوا في القتل والذبح والسبي والتهجير ليس فقط في بلدنا بل طالت مسيحيينا في شرقنا وفي أفريقيا، في نيجيريا كما في الصومال ووصولاً حتى كينيا وأثيوبيا ، فنحن كنا ولا زلنا نحمل صليبنا ليس فقط في أسبوع آلام واحد بل أصبحت الأيام لنا أسابيع وأسابيع آلام، وفي كل ذلك بقي إيماننا بالمسيح الحي حامينا وشاهدنا ومقوٍّ لمسيرتنا مؤمنين بربنا الذي قال:”ثقوا فقد غلبت العالم” (يو33:16)، ولنعلم أن الله معنا وهو مع المتّقين .
الخوف ، نعم الخوف:
الخوف.. حالتان في الصحيح ، حلم العودة يراودنا، والرحيل يكتب محطاته، نحن، المهجَّرون، النازحون، كلنا قد وقعنا في الفخ الذي نُصب لنا، ولا زال الزمان وغابره ولحد اليوم وساعته في صراعات طائفية مقيتة، ومذهبية مميتة، ودينية بفتواها، وفي هذه كله لم يكن لنا ولن يكون لنا ناقة ولا جمل ولكن ابتُلينا بجيراننا، إنهم يرسمون لنا مخططاً ويكتبون لنا علامة أنْ اتركوا، فالتراب بل الوطن ليس لكم، ويمحون من أفئدتنا حبّه وميزته، ويكسرون أعمدة البناء والبقاء، التشبث والثبات في أرضنا والتي تقيّأَتْنا رغم حبنا لها، ولا زال أملنا وشوقنا في العودة لاستنشاق نسماته، ورائحته لا تزال _ نعم لنا _ شهيق أنفاسنا ينشد عودتنا وإنْ كانت مؤلمة وأليمة، فنحن في عودتنا متألمين ولأجلها فاعلين، وإن كان الألمُ أشدَّ من ليلة طردنا، فالله رحيم وأمين سيرافقنا في مسيرتنا ، إنه السبيل المستقيم ولو كره الكارهون .
الخوف .. من المؤكد أن العودة ستكون لوحة خوف حقيقي لا يرسمها لنا إلا خيالنا،ولن تراها إلا عيوننا ، ولن نبكي لها إلا بدموعنا ، الخوف من كل شيء، والسؤال سيكون حينها: هل دورنا مفخَّخة؟، هل مداخلها مفخَّخة؟، هل شوارعنا وأزقّتنا مفخَّخة؟، ويزداد السؤال: هل العناصر الأمنية ستكون أمينة على حمايتنا بعدما سلّمت مساكننا وأملاكنا ومخازننا ومعابدنا بغمضة عين ، وبمزمار خافت صوته، في ليلة لا تضاهيها ليلة في الهروب والخوف والفزع وصراخ الأطفال ، وبكاء النساء، وتأوهات العجائز (العجزة)، وكبار السنين ، وفي حالات بائسة ويائسة ودون أن يرجف لهم جفن، وهذا ما سيجعل الثقة وعنصرها متزعزعاً خوفاً من أن الحالة ستتكرر ثانية، بصورة ناقمة وبرجال غير الذين كانوا وستكون الكارثة أكبر من سابقاتها وعزرائيل الأصوليين سيلعب حُرّاً طليقاً فيبيد ويهدم ويكسر…فنحن اليوم في قبضة الارهابيين والشياطين إنه زمن الشر بالحق والحقيقة، زمن قبضة الشيطان على العالم البائس .
الخوف .. ويُعاد السؤال ثانية: هل ستكون الأصوات من أجل العودة عملاً إعلامياً أم رسالة سياسية أم جواباً تلفزيونياً. فالخدمات أساسياتها هُدمت وفُجّرت، والسرقات طالت حتى الزوايا المظلمة في الطابق العلوي كما في السفلي، وحتى المخازن والصومعات بأديرتها ومقدساتها، بكتبها وسجادها، وأزاد الظلاميون في حقدهم حتى إبادة كل شيء، فعطية الكهرباء وأنابيب المياه ومضخات الحقول والمزارع، فكل شيء في صناديق القمامة، وأصبحت جبال تأوي الذئاب والقوارض والجرذان والحشرات القاتلة ولم يبقَ لنا أن نعلن إلا أن احتلال الشر طال كل شبر وكل بيت وكل شارع، فلم يبقَ حتى ما نعلن ونبثّ إشارة وذبذبة فأبراج الهاتف قُلعت وأُذيب رصاصها وسرق فولاذها، ونُبش الكيبل لإخراج هاتفه ولإحراق محتوياته، فلا بثّ ولا توصيل، لا ضوء ولا تحميل، لا ماء ولا إسالة، لا بلدية ولا وحدات، لا أمانة ولا منظّفين، خوف وجنون إنها مملكة الشر، إنها جوقة الشياطين… والسؤال يختم بقوله: هل نحن في صراع بين الخير والشر؟، هل العالم كتب نهايته؟… لعلّ وعسى! نعم ، وكان الله خير العارفين.
الخوف… باخديدا وقُرانا ومدننا في سهل نينوى، معالمها دُمّرت، مراقدنا ومز
اراتنا ، اثارنا ، كلها في مجاهل الموت والدمار والتهديم ، ونُهبت آليات البلدة باسم الغنائم ، وفُكِّكت مكائنها وحُلّت مساندها، كيف سيعود أصحابها بعد أن استنزفوا جميع مدخراتهم وما ملكت أيمانهم بمال الدنيا وليس بحريم اللهو، حيث الهجرة كانت ملاذهم والنزوح كان إيوائهم، فالشهادة قائمة على أن مقتنياتهم بعثرتها الأيادي السوداء أصحاب القلوب الغليظة والنيات الشريرة والأدمغة الإرهابية، فلا أثاث ولا موجودات ولا شيء، أموال جُمعت في سنين عمر كامل وممتلكات أفنوا اصحابها أعمارهم في وجودها ولمهّا، ماذا ستكون الحال؟، بل كيف ستكون؟… لا أحد يكهن بها إلا حاملوها ومرضاها والتعويض حينذاك يكون الفيتامين الأكيد لفقر الحياة بعصير التعويض للمتضررين جراء العمليات الحربية والعسكرية إضافة إلى ما دمّره الإرهاب الشرير بداعشه وهذا ما يحتاج إلى إرادة صلبة في جهدٍ مضنٍ يمنح منحاً لمشاريع تكون آية في إعادة الحياة لضمان البقاء والاستمرار، وهنا يجب أن تلعب المنظمات الإنسانية في الإغاثة الدولية وهيئات بلا حدود دوراً كبيراً وأساساً في أن تكون يد الخير والعون.ولا نحتاج للمصالح المزيفة لكبار الدنيا الفاسدين والذين قتلوا حقيقة الحياة بكبريائهم المزيف وحسبنا الله وهو رب العرش العظيم .
الخوف… مشاهد مؤلمة سنراها كما سبقنا فوصفناها، وربما يبقى السؤال والذي من أجله كان داعش وحاضنه، كان إرهابه وشروره، أن تتصرف لبيع تربتنا وعرض أملاكنا ودورنا للمزايدة بدولار مزيَّف، وبدينار بخس، فالداء نفسي ولا دواء إلا الرحيل، والأكثر ألماً أن تباع، فهم من أجل ذلك حصل ما حصل وحلّ ما حلّ، ومن أجل ذلك أعلنوا تحريرها، واللعبة الديموغرافية نتيجة حتمية شئنا أم أبينا، فلا من يحمينا ولا من يهيب بنا لإعادة أصولنا وجذورنا مرة أخرى، فالساحة السياسية مشتعلة، والمصالح تتقاسم كبار دنيانا وأسياد زمننا، وهم في اجواء غير أجوائنا ، والبسطاء في حيرة من أمرهم، فتموت العادات وتُمحى التقاليد بعد أن أُحرقت كتب ثقافتنا وإشحيم صلواتنا، وبيعت مخطوطاتنا ، وطُمرت حضارتنا ومُحي تاريخنا ، كي لا يقول كائن ، انهم كانوا هنا يوما ، وهذا أمر شيطاني لتغيير نسيج بساطنا باجتماعيته وإنسانيته، وأصبحت تركيبتنا فراداً أو جماعة متباعدة ومتصارعة ومتشتتة. نعم، الداء النفسي وحالة أحوالنا إما يقوداننا إلى الموت والانفجار وإما إلى المرض وداء العار، والحكاية سنحياها ونشاهدها وسنسمع أنين المبتلين بها،إذا ما أطال الله في أعمارنا بنسيم أنفاسنا، والتي أخذت مسارها في النفوس وفي الواقع ، ولكن الله فاحص الكلى والقلوب ، بكل شيء عليم.
الخوف… في الجانب الإيماني والمسيرة المسيحية ربما يتخلل الشك أو يقوى لدى البعض، فللوازع الديني في مثل هذه الحال يلعب دوراً مزدوجاً ربما سيأخذ مَنحاً قوياً رغم الألم والمعاناة أو يقلّ لدى الآخرين، ومن المؤكد كل ذلك حسب المعطيات آنذاك والتنشئة كعامل في الحكمة والوعي والهوية والانتماء، وفي هذا يجب على رجال الكنيسة أن يلعبوا دوراً مسؤولاً وكبيراً، ملؤه المسيح الحي في التجسد في قلوبنا ومسيرة حياتنا من أجل كلمة المحبة والمسامحة والصلح وقبول الآخر المختلف، من أجل نبذ كل خلاف نشأ وينشأ، والعمل من أجل وحدة الُّلحمة الوطنية بين الأبناء المختلفين، وحمل الرسالة المسيحية في حب الأعداء لأجل توبتهم، فالمسيح مات من أجلنا كلنا وهذه أقدس رسالة يحملها المسيحي في شهادة لإيمانه وعملاً بإنجيله المقدس، فنحن لا نحمل حقداً إلا لأعمال الشر والموت ولا يجوز أن يكون لنا وزرة مثل وزرتهم، فالرب قال:”أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الذين يضطهدونكم، باركوا ولا تلعنوا” (متى 44:5). وكان الله غفوراً رحيماً .
الخوف… عن ماذا سينتاب النازح على أثر الصدمة والواقعة الأليمة التي حلّت، بما سيعانيه وبما سيلاقيه، من أحداث عبر أشخاص، وهذا ربما سيدعو السكان إلى نزوح عكسي حينذاك سيكون المصير مؤلماً بل أسوأ بسبب حضور إرادات وغايات انتقائية، ربما كانت دفينة أو كانت مبيتة وربما هذا يدعو إلى اتهام الجماعة بِقُراها ومدنها وساكنيها، وننسى أن الفرد لا يمثل الجماعة، وحالة التعميم لا يجوز فرضها أو تسميتها. فالمسيحية تدعو كل واحد منا حمل أخطائه ويجب أن نميز ونفرز بين الصالحين والأشرار الفاسدين والأبرياء ونكون علامة خير للحقيقة من أجل إيجاد الحلول في التقارب بين الناس وفرزها كي تكون الحقيقة ليس في زارع البغض والكراهية والتفرقة بل في حاصد الغفران والمسامحة والقبول ولله الحمد محب الابرار والصديقين .
لا خوف ولا يأس
لا ينبغي على المسيحي أن يستسلم لليأس ، انه كلام قداسة البابا فرنسيس (عظته ليوم الخميس 27 نوفمبر 2014 ، في دار القديسة مارتا بالفاتيكان) . واضاف ، عندما تكثر الخطيئة تضعف القدرة على المواجهة ويبدأ الضعف والانحلال وهذا ما يحصل مع الاشخاص الفاسدين ، فالفساد يمنحك اولا بعض السعادة والسلطة ويجعلك تفتخر بذاتك فلا يترك مكانا للرب ولا للارتداد ، انه فساد الخطايا المتعددة ، فساد الروح الوثني وروح العالم ، انه أسوأ فساد ، وان هذه الثقافة الفاسدة تجعلنا نشعر بالاكتمال والاكتفاء كما لو اننا في الجنة ولكنها عفنة ومنتنة في داخلها ، فالرسالة التي تحملها الينا الكنيسة ليست رسالة خراب وإنما هي وعد ورجاء فربنا يسوع يقول لنا بوضوح ” واذا اخذت هذه تحدث فانتصبوا قائمين وارفعوا رؤوسك
م لان افتدائكم اصبح قريبا ” (لو 25:21) ، وعندما نفكر بالنهاية مع خطايانا وتاريخنا الشخصي لنفكر بالفرح الذي دُعينا اليه ولنرفع رؤوسنا ، صحيح ان الواقع اليم وهناك العديد من الحروب والكراهية والحسد والفساد ولكن نطلب من الرب نعمة ان نكون دائما مستعدين للفرح السماوي الذي ينتظرنا .
الخاتمة . المسيح رجاؤنا:
ومن المؤكد أن الحالة التي ستواجهنا تدعونا إلى أن نكون حكماء وعقلاء، فمجتمعاتنا العائدة لا تحتاج مع احترام المسمّيات ، إلى أحزاب تنهش بأجسامنا وتسرق أولادنا وانتماءاتهم، ومنظمات وجمعيات تكبر على فقراتها، وحركات تحتكر لنفسها مال غيرها وتحلل ما تشاء وتستهزئ ببسطائها، ومجموعات تفتخر بكبريائها كما لا تحتاج الى كبار يدّعونا انهم هم البيه ولبعض من أَحبَتِهم وإن كانوا من الفاسدين ، بل الى خدام بين شعوبهم ( لو27:22) ، وكل واحد منا له مدلولاته وغاياته ناسياً أو متناسياً مأساتنا ونزوحنا ومدّعياً أن ما حصل كان حدثاً ومضى، وعلى الحقيقة ما تحتاجه أن تشكل في كل محلة أو زقاق أو قرية أو مدينة أو محافظة مجلساً محلياً يقوده العقلاء والحكماء لوضع حلول أمينة وأكيدة وتابعة لكي يكون دعامة لجميع الوجهات الرسمية كي تطبق القوانين من اجل تفعيلها بعدالة الحقيقة واحترام المكوّن مهما كانت درجته ومكانته ، فلا نيأس فالله نصير البائسين ، فلا نخف بل لنملأ قلوبنا علامات الرجاء ورموز الأمل والحقيقة ، فالرجاء تاريخ أمين وحصن منيع ، أما الخوف ما هو إلا حالات بائسة .. فلا نخف فالمسيح الرب معنا ، وهو رجاؤنا ، وسبق وأعلمنا أن لا نخف . إنه الرحمن الرحيم، نعم وآمين.