بعد اكتشاف ۲٩ عظة غير منشورة في مكتبة ميونيخ للعلامة أوريجينوس السكندري (القرن الثالث)، بواسطة خبراء وعلماء لغويين ضمن معاجم لاتينية… اتجه الباحثون بهذا الكشف الآبائي ناحية مجد مدرسة الأسكندرية اللاهوتية. وغاصوا في نهج كتاباتها، كتيار فكري روحي ورعوي زاخر بقبول وفهم الإعلان المسيحي؛ وبكور تثاقف ومصالحة الإيمان بالمعرفة (المسيحية مع الفلسفة)، لفهم معرفة الله عبر العلاقة به والعِشرة معه؛ وإعلان محبة وصلاح وخلاص الله لأجل تعليم العائلة البشرية بأجمعها.
ويأتي هذا الاكتشاف الآبائي الثمين كإستمرار لرسالة آباء الكنيسة باعتبارها تقليدًا ثمينًا على مدار الأجيال؛ تتجدد روحها وفكرها وحياتها لمعالجة جروح العالم وسقطاته واحتياجاته، فمنذ قرون والعلماء يفتشون وينقبون عن هذا التراث المسيحي في كل بقاع الأرض، ويبحثون في الكتابات والمخطوطات والأيقونات والآثار والتاريخ؛ محاولين أن يضعوا أياديهم على هذه الكنوز: يستجلونها ويستوضحونها لمعرفة معالمها وفض ختومها؛ من حيث سلامتها وقِدَمها ثم تقنينها وقبولها.
صاحب هذه الوثائق المكتشفة هو أوريجين السكندري عميد مدرسة الأسكندرية اللاهوتية؛ والرائد للاهوت المسيحي في الكنيسة؛ الذي تقاطر عليه تلاميذ كُثُر من أنحاء كثيرة؛ وأنجز أعمالاً أدبية وشروحات كتابية جبارة؛ حتى أُعتُبر هو أبو اللاهوت المنهجي؛ بعد أن بلور المسيحية في شكل منهج فلسفي مبدئي.
شابَهُ أحيانًا الإخفاق والقصور… لكن وإن كان لكل عالم كبوة فلا أحد يستطيع أن ينكر نبوغه العقلي النسكي؛ وغزارته الدراسية والتفسيرية… مما جعله شخصية مثيرة للجدل امتد بها الاحتكام بين مؤيد ومعارض، فكما سُمّي أبو اللاهوت المنهجي؛ سُمّي أيضًا بأبي الهرطقة.
ويعدّ العلامة اوريجين احد اشهر المفكرين الذين انجبتهم المسيحية علي مدي تاريخها كله، وهو معلم لكثير من الأساقفة والبطاركة والقديسين.. حيث حفظ الكتاب المقدس عن ظهر قلب وفسره كله، وقد دعاه يوسابيوس القيصري بالرجل الفولاذي؛ لأنه ضم إلى الكنيسة جموعًا غفيرة من الهراطقة والفلاسفة الوثنيين، حتى اشتدت العداوة بينه وبين أعداء الإيمان، فكانوا يطاردونه ويحاصرون بيته؛ لكنه كان يتنقل محفوظا بالعناية الإلهية.
وبالرغم من نبوغه في المواد التمهيدية : الخطابة والفلك والهندسة والرياضيات ،الا انه تفرغ لتدريس الفلسفة واللاهوت ودروس تفسير الأسفار الإلهية، بالإضافة إلى شهرته المميزة في الشرح والوعظ (أوميليا) والتفسير والتعليق (تيمي) والتعاليم (سكوليا) بإقناع وبرهان؛ مستخدمًا الفلسفة كدليل ممهد نحو المسيحية.. فصار له مقاومون كثيرون اختلفوا معه، لكنه ومع هذا صار علامة فارقة في العلوم المسيحية المسكونية، وأشهر أعلام مدرسة الإسكندرية اللاهوتية .
تأكيدًا على دور مدرسة الإسكندرية اللاهوتي الحريص دائمًا على أن الحنطة تنمو وتثمر حتى ولو وُجد الزوان أيضًا… كما هو حادث في كل كنيسة؛ بأي بقعة من بقاع الأرض؛ لكن كنيسة الإسكندرية كانت في الوقت نفسه قادرة أن تستقطب كل الاتجاهات لتنمو وتتطور بها؛ حتى لا تتخلف عن التيار الكنسي الجامع لكل الكنائس، قادرة على الامتصاص والتعديل والتمسك بالحسن حسب الخط البارز في تاريخها.
ويكفي أن مدرستها الشهيرة نافست المؤسسات الثقافية المعاصرة لها في ذلك الزمان؛ كمعهد لاهوتي مرموق تُدرس فيه العلوم الإنسانية والكونية والرياضيات والفلسفات واللغويات واللسانيات… على أرضية صلبة تضمن أصالة المضمون التعليمي اللاهوتي الذي صار جديرًا وبديلاً لحركة فلسفية ضمن حلقات التاريخ الإنساني؛ قادها مشاهير العلماء: أثيناغوراس وبنتينوس واكليمنضس وأوريجين وديديموس الضرير.
اتسمت المدرسة اللاهوتية السكندرية بالمقدرة والغيرة نحو الإلهيات وسفارة إنجيل المسيح؛ وتفسير كنوز التعليم الحقيقي المبارك؛ في خصب فكري وعبقرية… ويعتبر أوريجين صاحب الوثائق المكتشفة هذه من أكبر المفكرين أصالة وموسوعية في العالم قاطبة؛ منذ نشأة الكنيسة وحتى الآن.
فقد كتب آلاف المجلدات والمقالات؛ وخصص له مجموعة من الكتبة المخترلين Stenographers يتناوبوا عليه كي يُملي عليهم ما تجود به قريحته بخط جميل Calligraphers؛ وهو بحق مؤسس عِلْم ضبط نصوص الكتاب المقدس Textual وهو الذي وضع الهيكسابيلا ذات الأعمدة الستة للشروحات النصية وأصول الكلمة؛ الغنية بالتعليم اللاهوتي والنفاذ للأعماق الروحية والباطنية.
عُرف العلامة أوريجينوس بمخاطبته للقارئ كمواطن عالمي Κοσμοπολιτάν حيث يُظهر تاريخ البشرية أمامه وهو سائر نحو إهتدائه إلى الله خلال الشريعة الإلهية… ووضع أول محاولات لتبويب التعليم اللاهوتي المسيحي وتركيبه منهجيًا في مُجمَّع لاهوتي Theologica Summa وهو أول من نحت تعبيرات لاهوتية أُتُخذت معايير اصطلاحية معمول بها في العلوم الكنسية.
وعلى صعيد آخر فقد ضم جموعًا غفيرة من الهراطقة والفلاسفة؛ وتتلمذ على يديه كثيرون صاروا من الشهداء.
تسببت المجادلات الأوريجينية Origenistic Controversies ؛ بين من تصدوا له ومن ناصروه إلى ضياع معظم مؤلفاته… ولعل الأبحاث الحديثة والتطور التكنولوجي العالمي يكش
ف الغموض وينفض الغبار عن كتابات هذا المعلم العريق التي تمثل إرثًا حضاريًا كبيرًا لكل من يصيغون حياتهم على مبادئ الإنجيل.