يجب علينا أن نميّز بين مختلف أنماط العنف . كل مرّة يُنظَر إلى تصرّف عنيف عند الإنسان وكأنه موضع تطلّب إلهيّ ، أو عملٌ صالح، لا بدّ من إحالته على المفتاح الذي نجده في تك 9 : كان الإنسان قد أصبحَ عنيفا فأعطاه الله ، بصيغته الجديدة لبركته (التي تفتتح مرحلة مختلفة في التاريخ ) نظامـــــًا متصلّبــــــًا ، لكنّه صنع ذلك بوضع حدّ لعنفه . ولذلك ، يجبُ على اسرائيل أن يُبيد ، لا جميع الأحياء ، بل الذكور فقط (تث 20 : 13 ) ، إن سبقت حرب ، وجميع الأحياء من دون استثناء ، إن كانوا من السكّان الأصليّين .
وهؤلاء ، تدمّر اسرائيل مدينتهم ، من دون أن تتملّك كنوزهم : ” لا تستهويكم الشهوة فتأخذوا شيئا من المحرّم ” (يش 6 : 18) . أمّا المعاهدة المعقودة مع اسرة من أُسَر المدينة فيجب أن تـــُحتَرم (الآيتان 17 : و25) .
مهما كان تاريخ هذه النصوص معقّدا ، وهي ليست متماسكة دائمـــــًا ، نقرأ فيها الرغبة ، بالإستناد إلى الشريعة ، في عرقلة عنف يُطلَق له العنان من جهة أخرى . فَعبرَ تلك المناقضة ، التي ليست ، ولا شكّ ، خالية من العنف ، ترتسمُ إرادة تفادي تهديد من نوع ٍ مختلف كلّ الإختلاف . فهي تقوم ، لا على هذا العمل العنيف أو ذاك ، بل على العنف الجوهريّ ، الذي يجب اعتباره غياب كلّ شريعة . فيكون المقصود عندئذ ، وبكلّ دقة ، ذلك العنف الذي كان سبب الطوفان : ” وفسُدت الأرض أمام الله وامتلأت عنفا ” (تك 6 : 11 ) .
يُرى مثل ذلك العنف بفضل تدفّق الخواء البدئيّ (تيهوم ، طوهو وبوهو في تك 1 /2 ، السابق للتدخل الإلهيّ ) . ويعود الخواء إلى الكون الذي سبق أن وَضعت الكلمة فيه فوارق . وهذا الخواء البدئيّ سيُطلِق عليه سفر الرؤيا إسمــــــًا وهو ” الوحش ” .
ليس هذا الوحشُ من الوحوش التي عُرضَت أمام آدم ! وليس له ” اسم ” يُطلقه الإنسان عليه ، بل يخلط في الفوضى جميع الأصناف، فيمكننا أن نسمّي هذا العنف ” المــــَسخيّ ” ، ” مَن لا إسمَ له ” .
من جهة سَير الرواية الكتابيّة ، فإنّ السؤال الذي طرحته البدايات هو هذا : هل ستستطيعُ الشريعة والعنف الذي يقاوم العنف أن يتغلّبا على المسخيّ والوحش ؟ إنّ هذا السؤال ينعش الرواية الآتية ويترك القارئ في حالة تردّد . ولكنّ الإعتراف بحجم المسخيّ هو الإنفتاح على حجم البُعد الإلهيّ وعلى صورة الله . وعلى عكس ذلك ، فإنّ عدم الإعتراف بذلك ” البُعد الإلهيّ ” هو التعرّض للإكتفاء بصور ، مع أنها دينيّة إلى حدّ بعيد ، لا يكون لها إلاّ ظاهر المنطقيّة والأمن والسلام ، ويمكن أن توصَف بأنها ” خياليّة ” : ” يُداوون كسر شعبي باستخفاف قائلين: سلام ، سلام ولا سلام ” ( إر 6 : 14) .