تكثر الكلمات وتتضاعف الصالونات واللقاءات؛ لكنها لا تفي نذور دعوة خدمتنا؛ عندما نبقى قابعين في مشاغلنا اليومية من دون تبصير مستنير ومراجعة -“لاحظ نفسك والتعليم”- كي يتحقق نضج المقاصد الإلهية لعمل الكنيسة التي هي نحن.. بالخروج إلى كل أمم الأرض التي لم يتركها الرب الإله من دون شاهد (أع ٢٠ : ٢١).
فبالرغم من أن الشيطان قد عشش في العالم؛ لكن الرب دائمًا يفتقد الأمم بطرقه العجيبة العالية على الأفهام، ويرسل آنيته الخاصة ليكرزوا به؛ ويصنعوا الأشفية للنفوس البعيدة التي هي خارج الحظيرة في تخوم العشرة مدن؛ لأنه هو أتى ليخلص الجميع “ليخلص ما قد هلك” (مت ١٨ : ١١)… إرساليته منفتحة على العالم كله بكل لغاته وأممه وأقطاره وثقافاته.
إرسالية رسولية للخليقة كلها؛ تتعدَى الأعراق والقوميات والذهنية العنصرية؛ لتمتد يدا الله الإلهيتين اللتين بلا عيب ولا دنس الطوباويتين المحييتين، فتشفي وتروﻱ وتُشبع وتقدس وتُبرئ وتقيم؛ حسب أدوية خلاصه ووسائط نعمة كنيسته، التي بها تمتد وتنفتح حتى تنضج رسالة بشارتها الكرازية؛ فتنتزع ملكية عُبّاد الأوثان والملحدين واللادينيين من قبضة جحيم إبليس؛ لأنها مدعوة لتنتشل ملكية هذه النفوس المريضة والميتة بالذنوب والخطايا وعتمة الجهالة… ولتنتزع ملكية الأمم من الشيطان “مختطفين النفس من النار“.
تضع أصبعها في آذانهم بكرازة تعليمها الوعظي؛ فتلمس قلوبهم بأعمال قدوتها وذبيحة إيمانها ؛ ملازمة السجود والصلاة كل حين؛ ليفتح الله أمامها الأبواب والآفاق ؛ قائلة قَوْل عريسها السماوﻱ “إفَّثَا ؛ أﻱ انفتح” (مر ٧ : ٣٤)؛ لتنفتح المغاليق التي أغلقها الشيطان؛ فيسمعوا ويقبلوا كلمة بشارة حياة العهد الجديد المفرحة؛ لأن الله يريد أن يعلن خلاصه وسط كل الشعوب ؛ كي يُوضَع على المنارة وتنضج كرازة كنيسته؛ محققة مقاصد مشروعِهِ الخلاصي العجيب… إنه يشاء لهذا الانغلاق بين الأمم أن يأتي إلى نهاية، ويزول كل حاجز وعلو يرتفع ضد معرفة مجده.
لكن انفتاحنا ونضوجنا لا يأتي أبدًا إلا من فوق من عند أبي الأنوار، ولن يأتي إلا بحضوره في وسطنا ؛ وبعمل نعمته القادرة على كل شيء، وهو الذﻱ ينقلنا من بلبلة بابل إلى وحدانية العلية، فننطلق كسهام بيد جبار؛ لنعمل عمله ونشهد له في كل حقول الكرازة… هو وحده الذﻱ يحل عقدة لساننا وضيق آفاقنا؛ لننضج ونتجاوز كل نقص وعجز وأنانية ، تُحَوْصِلُنا وتحصرنا في ذاتيتنا؛ فنعبر ونردد نداءه… نداء كنيسة الصلاة والمعرفة، كنيسة المحبة والرحمة، كنيسة الرجاء والتأهيل والخلاص الثمين؛ القادرة أن تفتح مسامع العالم وعقدة لسانه
منادية بفعل تدبيره؛ حتى تبلغ إلى نضوج المقاصد الإلهية؛ ويتعظم عمله وينضم إليه الذين يخلصون؛ فيجدوا كنيسة مسيحهم – تُعلِّم كما تعيش – وتحيا حسب الإنجيل وقدوة الرسل القديسين (الحقيقة والحياة) / (الإيمان والأعمال) / (الجهاد والنعمة) / (التعليم والسيرة) / (الخبر والخبرة)، شخصيًا وجماعيًا… حياتها كشفًا لذلك من غير انفصام أو انفصال أو اختزال.. بدون ذلك لا يمكن أن نقدر على تحقيق هذه الرؤيا؛ بل ونفشل في مهمتنا ويكون ما نعلنه باهتًا؛ واثقين أن لنا هذا الكنز محفوظًا في أوانٍ خزفية؛ وهو ثمين وكريم ومبارك.
إن صليب آلام الكرازة هو مجد سلطة خدمتها في كنيسة الحق والحياة المسكونية التي تجمع البعيدين والفقراء والمشتتين والمساكين بالروح؛ الذين اتخذوا خشبة الصليب وعرش الملك علامة لهم؛ وجعلوا رُعاتها وخدامها لهم رائحة قطيعهم ؛ محمَّلين بأوجاعهم واحتياجاتهم؛ غير مغلوبين من النعاس والتشتت، خادمين حقول الكرازة المتسعة؛ لا بإضطرار ولا بتسلط؛ بل بحماس الرسل، وبمفهومات كرازية تكمل الأعمال والمواهب والطاقات؛ التي تحل وتنصُبُ خيمتها في كل الأرجاء؛ جامعة الجميع في شبكة خيمة واحدة… حاسبين حساب النفقة، جاعلين كنيستهم مستعدة للمجيء الثاني؛ لأن الوقت قريب؛ وما يحدث على أرضنا ونجوز فيه، يزيد توقعنا لننجز ما دُعينا من أجله، في انتشال هذا العالم من الوجع المهلك.
ليت كنيستنا تسعى لتعيد تشكيل أفكارنا وأعمالنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا، لتجدد ما انقضى؛ متجهة صوب الملكوت، فتتسع من أقاصيها إلى أقاصيها؛ كارزة لكل القطعان والشعوب في أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية وفي الصين واليابان، امتدادًا أفقيًا ورأسيًا لكرازة مارمرقس الإنجيلي الطاهر والشهيد، كاروزنا مبدد الأوثان.