الجواب : إنّ العقيدة المعاصرة في موضوع الحياة الآخرة تبدأ بالقول إنّ الإنسان ينتهي حقا بالموت . فبعد خروجه من هذه الحياة لن يعودَ له وجود مشابه للوجود الذي كان له منذ ولادته حتى موته . ومع ذلك ، فالموت لا يضعُ حدّا نهائيّا لوجوده ، وذلك استنادا إلى الأنثروبولوجيا المسيحيّة وإلى العقيدة المتعلّقة بشخص المسيح (علم المسيح) أو ” الكرستيولوجيا ” . فإذا كان الإنسان على صورة الله ومثاله ، وبالتالي فريدًا في شخصه ، قد خلقه الله من فيض محبّته المجانيّة من دون أي استحقاق من قِبَله ، فشريعة المحبّة تقتضي بأنه لن يفنى . فالمحبّة ، من كيانها عينه ، تعني الأمانة إلى الأبد . فهي تقول : أنتَ لي وأنا لكَ . ومن ثمّ ، فإذا كان الله يحبّ الإنسان حبّا حقيقيّا ، فلا يمكن أن يدعَه يذهب إلى الزوال والتلاشي بهذه السهولة التي نتصوّرها ويتصوّرها العالم الآن ! .
ولا يمكننا أن نذهب بعيدًا عن الإنجيل ، فإقامة يسوع الناصريّ من الموت بقوّة الله هي الأساس المسيحيّ الحقيقيّ لتأكيد حقيقة هذه الكلمات أعلاه التي تبدو ، لأوّل وهلة ، نظريّة .
إذن ، فمن جهة يموت الإنسان موتا حقيقيّا ، وهو بالتالي عابر وزائل ، ومن جهة أخرى يؤمن المسيحيّون باستمرار هذه الذات عينها . إنّ نظريّة النفس والجسد كانت جاهزة لتفسير هذا الموضوع بسهولة ، إذ بموجبها تستمرّ عمليّا النفس سالمة ، ولا يعني الموت تغيير وضع المركّب الإنسانيّ . لا يمكن إلاّ أن نقرّ بأن الموت بحدّ ذاته ، أي بناء على التكوينا الطبيعيّ للجسد ، هو ثمن الحياة الذي لا بدّ منه . هذا ما تــــُثبته نظريّة التطوّر. ولكن الموت يجب أن يُحدّد بأنه ” نهاية الإنسان ” ، إذا كان الكلام يتعلّق بالموت الإنسانيّ . إنّ مقولة الإستمرار في الوجود في الحياة الآخرى ، هي نظريّة يبنيها الإيمان بمحبّة الله التي لا تموت . وهي ترتكز فقط على ” تدخّل الله ” وليس على أيّة قاعدة طبيعيّة كتلك التي تتبنّاها صورة الإنسان الأفلاطونيّة . فالإستمرار عبر حدود الموت ليس فقط لشيء إنسانيّ بل للإنسان ، وبالتالي لهذه الصورة التي هي على مثال الله ، يعتمد على أنّ الله يقبل الإنسان المائت على نحو ٍ ما ويحفظه ، باعثا إيّاه إلى وجود جديد . ويصفُ القدّيس بولس هذا الأمر في (1 كور 15 ) ، بكلمة ” التحوّل . فالتحوّل ، في المفهوم اللغويّ العامّ ، يعني الإنتقال من صورة إلى صورة أخرى مختلفة تمام الإختلاف مع بقاء ذات الإنسان الذي يخضع لهذا الحدث . وهناك أيضا تشبيهُ ” حبّة الحنطة ” إنّ ما تزرعه ، أنت ، لا يحيا إلاّ إذا مات . وما تزرعه ليس هو الجسم الذي سيكون ، بل مجرّد حبّة من الحنطة ، مثلا ، أو غيرها من البزور . إلاّ أنّ الله يؤتيها جسمًا على ما يريد ، لكل من البزور جسمه المختصّ به ” .
” إنّ جسدنا لا يتماهى مع الجسم البيولوجيّ الذي نحيا به . فالجسم ، أي ما هو ماديّ في الإنسان ، تنحلّ عناصره الماديّة الأصليّة في حدث الموت . هذا الإنحلال يبدأ في الواقع منذ هذه الحياة . فكلّ يوم تموت خلايا ، بحيث إنّ كلّ عناصر جسمنا الماديّة تتجدّد تجدّدا شبه كامل خلال حوالي سبع سنوات .
يقول البابا بنديكتوس السادس عشر : ” المسيح نفسه ، البارّ الحقيقيّ ، لكونه بارّا ، وهو الإنسان الذي يتألم ويُسلَم للموت . لقد نزل البارّ إلى الجحيم ، إلى المكان النجس الذي لا يُسبّح فيه الله . وبنزول يسوع هذا نزلَ الله نفسه إلى الجحيم. لكنّ الموت ، في الوقت عينه ، لم يعد أرض الظلمات التي تخلّى الله عنها ، ومكان المبعَدين إلى الأبد عن الله . في المسيح دخل الله نفسه مجالَ الموت وجعلَ هذا المكان الذي لا إتصال فيه مكانَ حضوره . لهذا فالكيان المتّحد بالمسيح لا يزول بالموت . فالله هو الذي يُمسك بنا . وقمّة إتصال الله بالإنسان من بعد الموت ، هو الطابع الحواريّ ! فبما أنّ الله هو إله الأحياء ، فهو يدعو الخليقة باسمها ، فالله هو علاقة ومحبّة وخصوبة وحياة ونور وإنفتاحٌ كليّ ولا مجال للإنغلاقيّة فيه .