Books

Robert Cheaib - www.flickr.com/photos/theologhia

ولادة الإيمان .. في البدء كان الكلام

دراسة في قانون الإيمان المسيحيّ  (2)

Share this Entry

الطفل الصغير ، حالما يستفيقُ من غفلته إلى الوعي ، يطرح على البالغين السؤال تلوَ السؤال : ما هذا ؟ لمَ هذا ؟ ما الفائدة ؟ وكثيرًا ما لا يعرف الوالدون أنفسُهم الجواب الصحيح ، ويشعرون أنّ كثيرًا ممّا كان يبدو لهم طبيعيّا ليس في الحقيقة كذلك . وفي سنّ المراهقة يبدأ الشبّان والشابّات باكتشاف شخصيّتهم الخاصّة ، فيريدون أن يكوّنوا حياتهم الخاصّة بأنفسهم ، ويتطلّعون إلى عالم البالغين معترضين . ويُدرك كثيرٌ من الوالدين ذواتهم في موضع المناقشة من خلال انتقادات أولادهم . وهكذا يحدث تبدّل الأجيال :  فلكلّ جيل أو بالأحرى لكل حقبة ٍ من التاريخ طريقتها الخاصّة في رؤية الأمور وأسلوبُها الخاصّ في العيش .

أعطيتُ إسمًا للمقال الثاني (ولادة الإيمان .. في البدء كان الكلام !) . لأنّ الإيمان ليس نظريّات جامدة منزلة من فوق رأس الإنسان ، ولا فرضيّات ممكن أن تكون صحيحة وممكن أن تكون خاطئة . ” الإيمان نورٌ ، نورٌ للإكتشاف  لكونه قادرًا على إضاءة كل وجود الإنسان . ولكي يكون قادرًا ، لا يمكن أن يكون منحدرًا من أنفسنا ، بل يجب أن يأتي من مصدر أكثر أصالة ، يجب أن يأتي ، بالنهاية ، من الله ” (البابا فرنسيس _ رسالة نور الإيمان) . دانتي في الكوميديا الإلهيّة ، بعد أن اعترف بإيمانه أمام القديس بطرس ، قد وصف الإيمان وكأنه ” شرارة ” ، تتسع فتتحوّل لشعلة حيّة ، كنجم ٍ في أعالي السماء في باطني يتلألأ (قصيدة الفردوس) .

لا يولد الإيمان من عمليّات حسابيّة رياضيّة ، ” فطالما أفهم العلاقة بين كميّة حسابيّة وأخرى ، فالمسألة واضحة ، وعندما أعرف أن مزج عنصر واحد بعنصر آخر يكون مركبا معيّنا ، لا أسعى إلى معرفة المزيد ، وعندما تعلّمني مصادر تاريخيّة جديرة بالثقة أنّ شخصًا ما قد عاش في حقبة معيّنة وعمل هذا وذاك ، فالمسألة محسومة . بيد أنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة للإيمان ، فالسؤال هنا يخصّ حقائق صعبة الفهم ، وعمقا حيّا لا يصف نفسه ، إلا بشكل بطيء فقط (إنه يشبه الولادة ) ، بل بالأحرى عليّ أن أتكلّم عن عمق مقدّس يكشف عن نفسه في ظروف محدّدة ، إذ يقتضي حالات محددة من المعرفة والمواقف : هذا ما نسمّيه ” الخبرة ” .

في سبيل إدراك محتوى الإيمان  علينا أن نختبره

يقول اللاهوتيّ رومانو غوارديني : ليست حقائق الإيمان مجرّد حقائق يمكن استيعابها فحسب باسلوب نظريّ صرف . لو كان الأمر كذلك ، لكان بالإمكان سبر غورها عن طريق البحث والدراسة … يعني الإيمان بلوغ الإنسان الحقيقة ، وهذا يستلزم عملا محدّدا يهدف إلى الله على أنه المصدر والنهاية .  الإيمان هو أن أكون متمسّكا بالحقّ .

هناك خبرة أخرى أيضا ، وهي أكثر الجميع عمقا : الحقائق المقدّسة تصبح حقائق . هذا ما قصده الكاردينال نيومان عندما تكلّم عن ” الإدراك ” ، أي أن حقائق كهذه تترك عالم الفكر أو النيّة أو الإرادة لتصير وجودًا حيا أو لتكتسب قدرًا حقيقيّا . ولكن هذا قد يستغرق وقتا طويلا جدّا ، لا يأتي الإيمان – كما يقال عادة – بليلة ويوم ! قد نحمل الإيمان ونتصوّر أننا نحمله ونتعب ونضجر ونتضايق ، لكن يأتي يوم نكتشف بأننا لسنا نحن الذين نحمله ، بل هو يحملنا ويحتوينا .

أخيرًا وليس آخرًا ، إنّ الإيمان ليس شيئا قائما بذاته في الهواء ، أنه يعقب ظهورًا شخصيّا من قبل الآخر ، إنه ” لقاء ” على الطريق . مفاجأة غير متوقّعة من منعطف الطريق . هجومٌ لم أكن مستعدّا له . ولهذا ، فإنني في هذا اللقاء والهجوم ، لستُ أمام الحقيقة الفكريّة ، ولا إزاء نظرة إلى العالم ، ولا أمام كتاب فلسفيّ ، أنا أمام واحد ،  إنه هنا بشخصه الغريب القريب المختلف عنّي . لهذا قلنا إنه ” ولادة دائمة ” ، خروجٌ مستمرّ من – وإلى – الآخر ، إكتشافٌ مستديم لحقيقة الله والإنسان والحياة . لكنه ليس خروجــًا مريحـــًا ولا ولادة سهلة ؛ بل إنه تمزّق ومخاض ، فيه صعوبات وتخبطات ومصاعب ومطبّات وخيبات . إن الإيمان كلمةٌ قيلت لنا ودعوةٌ وجّهت نحونا ، فإن أهملنا الكلمة ولم نعطي جوابــًا ولا لبّينا الدعوة ؛ ستبقى حياتنا ، من دونهما ، بلا معنى وبلا هدف وبلا رجاء .

يتبع

مراجع هذه المقالة

1- المسيحية في عقائدها ، أساقفة ألمانيا ، نقله من الألمانيّة المطران كيرلس بسترس

2- حياة الإيمان ، رومانو غوارديني  ، ترجمة الأب حبيب هرمز

3 – الرسالة العامة ” نور الإيمان ” ، البابا فرنسيس

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير