1. يسعدني أن أشارك في هذا المؤتمر العالمي بموضوع “مسيحيّو الشَّرق الأوسط: تراث ورسالة” الذي تدعو إليه وتنظّمه الرابطة المارونية مع كنائس الشَّرق الأوسط، وتستضيفه مشكورةً جامعة سيدة اللويزه ذوق مصبح. فيطيب لي أن أحيِّي جميع المشاركين ورئيس الرابطة ومجلسها ورؤساء الكنائس وممثِّليهم ورئيس الجامعة والقيِّمين عليها والمحاضرين.
2. يتساءل كثيرون عن “مصير مسيحيِّي الشّرق الأوسط”، وكأنّهم في خطر الزوال. أمّا أنا فأقول: المسيحيّون اليوم هم حاجة بلدان الشّرق الأوسط الملحّة والقصوى. فهم كانوا في أساسها، إذ يرقى وجودهم في هذا المشرق إلى ألفَي سنة، وهم أرسوا على أرضه الثقافة المسيحيّة قبل ظهور الإسلام بستماية سنة، فأصبحت أرضنا بيبليّة. لم يكن حضورهم في البلدان البيبلية مجرّد انتماء سوسيولوجي أو نجاح اقتصادي وتجاري، بل كان حضور إرسالٍ إلهي (راجع مر16: 15) التزموا بموجبه إعلان الإنجيل ونشر ثقافة المحبة والأخوّة والسلام. هذا ما يريد تأكيده موضوع هذا المؤتمر “تراث ورسالة مسيحيِّي الشرق الأوسط”.
حضور المسيحيِّين كان وسيظلّ، واليوم بمزيد من الاندفاع، للشهادة والخدمة والرسالة، فلا تقوقع ولا ذوبان. يعتبر المجمع البطريركي الماروني “أنّ التقوقع يلغي رسالتنا، والذوبان يقضي على هويّتنا”. أليس في هذه المنطقة تجسَّد ابنُ الله، يسوع المسيح، لفداء الجنس البشري وخلاص العالم؟ أليس فيها أسّس كنيسته لكي تواصل عمل الفداء والخلاص؟ إذن، ما من أحدٍ يستطيع اقتلاع الكنيسة والمسيحيّين من هذا المشرق، لأنّ الله زرعها وزرعهم في أرضه. وبالتالي يبقى النهج المسيحي نهج حبّة الحنطة: الموت والقيامة. “فدمُ الشهداء بذار المسيحيّين”، على ما كان يردّد آباء الكنيسة. وهذا ما نعرفه بالاختبار من مجرى التاريخ.
3. حضور المسيحيّين في بلدان الشّرق الأوسط حضور تراث ورسالة، كما يحدّده موضوع هذا المؤتمر. فقد غذّوا تاريخها وثقافات أرضها بحضارتهم الإنجيلية،الروحية والاجتماعية والإنمائية: عزّزوا الانفتاح والتنوّع بوجه الانغلاق والأحادية؛ نقلوا قيم الحداثة؛ ساهموا في نشأة الأحزاب السياسية وفي بناء الدولة الحديثة؛ كانوا روّاد حركات التحرّر من حالة الانتداب؛ كما كانوا في أساس إحياء الحضارة العربية، المسيحية – الإسلامية، ونهضتها. ولقد سجّل التاريخ وجوهًا لا تُنسى، يضيق بنا الوقت لذكر اسمائها وهي كثيرة. هذا الماضي ليس مجرّد ذكريات، بل هو اليوم واجب الأمانة والاستمرارية والابتكار الذي يستمدّ المستقبل منه رؤياه.
من نتائج النهضة العربية التي أسهم فيها المسيحيّون إسهامًا أساسيًّا، استنباط مفهومَين هما حاجة دائمة لبلدان هذا المشرق: العروبة والتعددية.
فالعروبة، بمفهومها الأصيل، هي عروبة الإنسان لا الدّين، وعروبة الانفتاح والحداثة الإيجابية لا الانغلاق والتعصّب. أمّا التعدّدية فهي تعدّدية الثقافات والجماعات، التي يرتكز عليها كلّ مجتمع حضاري متقدّم،وتعزّزها دولة مدنية حديثة قادرة. وليست تشرذم طوائف وكيانات على حساب الوحدة الوطنية. وكان التركيز في هذا الإسهام على أنّ المحور الثابت والأساس للعروبة والتعدّدية إنّما هو الإنسان، وقدسيّةُ حياته، وكرامتُه وحرّيتُه وحقوقُه.
4. يسجّل التاريخ تداخلًا غير منفصم بين المسيحيّة والشّرق الأوسط. وقد أراده الله وأدركهالمسيحيّون بأنّه وجود رسالة موكولة إليهم. بهذه الروح دخلوا في علاقة العيش السلمي مع الدّين الإسلامي الجديد في المنطقة، بالرغم من الاختلاف العقائدي والثقافي. وساد التعاون في بلاط الخلافتَين الأموية والعبّاسية، وفي الثقافة والحضارة العربية. كما ساد الاحترام المتبادل ضمن دولة تحترم تنوّع المعتقدات.
5. لكن سرعان ما مرّ هذا العيش معًا في مراحل صعبة ومظلمة أثناء عهود الفاطميّين والمماليك والعثمانيّين الأتراك. ثمّ استقرّ بعض الشيء عند استقرار الأمبراطورية العثمانية، وقيام الإمارتَين المعنيّة والشهابية في جبل لبنان، لتعود المحن في بدايات القرن العشرين لتشتدّ بقساوة مع قيام حركات التتريك والقوميّة والتطهير العرقي في تركيا فكانت المجازر والإبادة المروّعة سنة 1915 التي وقع ضحيّتها مليون ونصف المليون من الشعب الأرمني ومئات الألوف من اليونانيّين والسريان والأشوريين والكلدان.
وكانت المجاعة في جبل لبنان التي حصدَتْ ثلث سكانه، بسبب الحصار البرّي والبحري الذي ضربَ عليه.
هذا على صعيد الدولة الحاكمة، أما على صعيد الشعب، فقد بلغَ التعاون المسيحي – الإسلامي درجة مرموقة في العمل المشترك في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فكان للمفكّرين والصحافيّين المسيحيّين دورٌ بارز على صعيد الثقافة والصحافة، وفي الدعوة إلى الوحدة العربية في وجه التعسّف التركي.
6. أما لبنان، فيشكّل نموذج العيش معًا، بالمساواة بين المسيحيّين والمسلمين، في نظامٍ يفصلُ بين الدِّين والدولة، مع حفظ الإجلال الكامل لله ولشرائعه واحترام جميع المكوِّنات الدينيّة المتنوّعة، وضمانة أحوالها الشخصيّة، وفي نظام ديموقراطي برلماني يُتيح للمسيحيّين والمسلمين، على تنوّع طوائفهم، المشاركة المتوازنة في الحُكم والإدارة، على أساس الميثاق الوطني وصيغته التطبيقيّة ووثيقة الوفاق الوطني التي دخلَتْ مبادئها في الدستور الجديد سنة 1990.
ولبنان بتعبير القديس البابا يوحنا
بولس الثاني: “قيمة حضاريّة ثمينة” ، وهو “أكثر من بلد، بل هو رسالةُ حرّيّة، ونموذجٌ في التعدّدية والعيش معًا، للشّرق كما للغرب، وصاحب تقاليد غنيّة وعريقة في التعاون بين المسيحيّين والمسلمين، وفي الحوار والتوافق من أجل خدمة الإنسان. وهذه شروط للحريّة والسلام واحترام الآخر”.
7. من هذا التراث، تنطلق دعوة لبنان التاريخية ورسالته، التي فيها للمسيحيّين عامّةً وللموارنة خاصّةً، دورٌ رائدٌ، بفضل مدارسهم وجامعاتهم ومؤسّساتهم المدنيّة والكنَسيّة، وبفضل ثقافتهم المسيحيّة التي ينقلونها إلى شركائهم في الوطن، ويتلقّون منهم إيجابيّات ثقافتهم الإسلاميّة. وهكذا وطّدوا العيش معًا على أُسس ثلاثة: المساواة والمشاركة والتكامل، وهي بمثابة حجر الزاوية في البناء اللّبناني. هذا النموذج اللّبناني أجرى تحوّلاً تاريخيّاً في العلاقة المسيحيّة – الإسلاميّة بالمطلق. فقد نقلَها من التّوتر وعدم التّكافؤ إلى التوافق والتكامل، ومن التعصّب إلى الإعتدال. خصوصيّة لبنانهذه جعلت منه دولة بجناحَين، مسيحي ومسلم، متكافئَين، بحيث يُشكّل كلُّ جناح، على تنوّعه وغناه، قيمة مُضافة، تؤلّف جمال التنوّع في الوحدة. كما أنّها تمكّنه من الإسهام في إخراج العالم العربي من مخاضه الحضاري إلى إقرار الوحدة في التنوّع والحريّات العامّة، والعمل بمقتضيات العدالة والسلام، وحقوق الإنسان.ومن المعروف أنّ هذه القيم هي من صميم الثقافة المسيحية. ولذلك الحضور المسيحي في بلدان الشرق الأوسط حاجة وضرورة. وبدل السؤال عن مصير المسيحيين، ينبغي أن يتساءل العالم العربي عن مصيره بدون دور فاعل للمسيحيين.
8. أما اليوم، وقد تعثّر دور لبنان في مساهمته بسبب انجراره في محاور النزاع الإقليمي السنّي – الشّيعي، فكانت ارتداداته السلبيّة عليه بنزاع سياسي بين فريقَين شطرا البلاد، حتّى الوصول إلى عدم إنتخاب رئيس للجمهوريّة منذ سنة وأربعة أشهر، وبعد ستّ وعشرين دورة انتخابية فاشلة. وهم اليوم، مع الأسف الشديد، في انتظار القرار من الخارج.
فإنّنا معكم، ومن هذا المؤتمر، الذي يبرز دور لبنان والمسيحيّين في منطقة الشّرق الأوسط، نوجّه النّداء إلى كلّ فريق سياسي وكتلة نيابيّة، كي يعيّن مرشّحه النّهائي المقبول من الآخرين، على أن يكون مميّزًا بصفة رجل دولة معروف بتاريخه الناصع وبقدرته وحكمته على قيادة سفينة الدّولة في ظروفنا السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة الصعبة للغاية.
بانتخاب رئيس للجمهورية من هذا النّوع تعود الحياة الطبيعيّة إلى المؤسّسات الدستوريّة والعامّة، وتُجرى الإصلاحات السياسيّة والإدارية اللّازمة، وتتشدّد مكوّنات الدولة القويّة والقادرة والمُنتجة. عندها يستطيع لبنان أن يقدّم إسهامه في الحلول السّلمية للنزاعات والحروب الدائرة في منطقتنا، وممارسة العنف المتبادل، التي لا نتائج لها سوى المزيد من الهدم والقتل والتّهجير.
نأمل أن يؤتي هذا المؤتمر ثماره المرجوّة في ما يعالج من مواضيع تختصّ بدور المسيحيين البنّاء في أوطانهم الشّرق أوسطيّة، بفضل ما هم مؤتمنون عليه من “تراث ورسالة”.
عشتم! وعاش لبنان!