CC0- Pixabay creative commons

العصر الجديد ينتحل زورًا صفة علم النفس

تسلّل العصر الجديد في العلوم وفي علم النفس

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

“العصر الجديد” ينتحل زورًا صفة علم النفس ويخلطه بتقنيات من الشرق الأقصى وبفرضيات فلسفية لا إثباتات عليها بحسب المنهجية العلمية.

بعد أن تكلّمنا في مقالة سابقة عن “علم النفس الإيجابي” وأوضحنا ثغراته التي لها علاقة وثيقة بتقنيات العصر الجديد. سنتكلّم في هذه المقالة عن غنّوصية العصر الجديد التي تسللّت إلى علم النفس بواسطة أشخاص عديدين منهم عالم النفس المشهور كارل غوستاف يونغ، ويليام جايمس وغيرهم.

يونغ وغنوصية “العصر الجديد”

 من علماء النفس المشهورين والمؤثّرين الذين يستشهد بهم روّاد وأتباع العصر الجديد، عالم النفس”كارل غوستاف يونغ” Carl Gustav Jung(1875-1961). الذي ساهم بشكلٍ كبير في بلْوَرة الطابع الأساسي لفكر العصر الجديد كما أكّدت وثيقة “يسوع المسيح الحامل الماء الحيّ”[1].

نقرأ في الفصل الثاني، الفقرة 3.2 من الوثيقة، في معرض شرح روحانية العصر الجديد، أنّ الطابع الأساسيّ لهذا التيّار مستمدّ من التقليد الإيزوتيريكي- التيوزوفي الذي كان منتشرًا على نطاقٍ واسع في الفكر الأوروبي خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. وتضيف الوثيقة أنّنا نجد هذا التقليد الباطني بنوعٍ خاص في الماسونيةFranc Maçonnerie  والأرواحيةSpiritisme  والخفائية Occultisme والتيوزوفيةThéosophie . وهم ينهلون جميعهم من الثقافة الباطنية  Esoteriqueنفسها.

في هذه الرؤية للعالم، يتّصل الكون المرئي بالكون اللامرئي بسلسلةٍ من التطابقات والتماثلات والتأثيرات، (خصوصًا بتأثيرٍ من الهرمسية[2]( بين العالم الأكبر Macrocosm والعالم الأصغر Microcosm، بين المعادن والكواكب، بين الكواكب ومختلف أجزاء الجسم البشري، بين الكون المنظور والعوالم غير المرئية.(نلمس هذا الأمر خصوصًا في ممارسات خفائية وغيبية كالتنجيم والعرافة والأرواحية والسحر). فالطبيعة عندهم كائنٌ حيّ تجتازه سوائل عصبية من التعاطف والتنافر، وتُحييه نارٌ سريّة تسعى الكائنات البشرية للسيطرة عليها. وبإمكان الناس أن يدخلوا في اتّصال مع العوالم السامية أو الدُنيا بالمخيّلة أو من خلال وسطاء كالملائكة، الأرواح والشياطين أو من خلال كتبٍ طقسية. ومن هنا فكرة المسار الباطني للتحوّل الروحي، الذي يمكّن الإنسان الإلمام بأسرار الكون والألوهة والذات. لكنّ الهدف الحقيقي هو المعرفة الروحيةGnose ، الشكل الأعلى للمعرفة “المخلّصة” المتجذّرة في التقليد الفلسفي الأقدم والعقيدة السريّة الإيزوتيريكية التي تُنقل من معلّم إلى تلميذ في برنامجٍ هدفه الإلمام بالتدرّج.

تبلور هذا التقليد ليبلغ تمام تشكيله في تيوزوفية الوسيطة الروحية مدام “هيلينا بلافاتسكي” التي أسّست مع هنري أولكوت الجمعية التيوزوفية سنة 1875 . فخلطت عناصر من التقليديْن الشرقي والغربي في نمطٍ من الروحانية التطوّرية لها ثلاثة أهداف رئيسية:

 تشكيل نواة أخوّة إنسانية عالمية دون تمييز في العرق أو الدين أو الطبقة الإجتماعية،

تحفيز دراسة الأديان المقارنة والفلسفة والعلوم،

محاولة فهم أعمق لقوانين الطبيعة وتفعيل قدرات الإنسان الخفية الكامنة فيه.

وتشير الوثيقة إلى تأثير عالم النفس كارل غوستاف يونغ فنقرأ أنّ ماريلين فرغسون كرّست فصلاً من كتابها “أولاد الدلو”Les Enfants du verseau  لأسلاف عصر الدلو، هؤلاء الذين أرسوا أسُسَ رؤيةٍ مغيّرة قائمة على توسيع الوعي واختبار تجاوز الذات. فتستشهد خصوصًا بعالم النفس الأميركي ويليام جايمس William James والمعالج النفسي السويسري كارل غوستاف يونغCarl . Gustav Jung. كان ويليام جايمس يؤكّد أنّ الدين هو اختبار، لا عقيدة. ويعلن أن بإمكان الناس تغيير موقفهم الذهني لدرجة يصبحون معها صانعي مصيرهم الشخصي.

ركّز يونغ من جهته، على السمة المتسامية للوعي وأدخل مفهوم اللاوعي الجماعي Inconscient Collectif  وهذا المفهوم بحسب ادّعائه، نوعٌ من خزّانٍ للرموز والذكريات المشتركة بين شعوب كلّ الأزمنة وكلّ الحضارات. وبحسب ووتر هانغرافWouter Hanegraaff  ساهم هذان الكاتبان في “إضفاء مسحةٍ قُدْسية على علم النفس” ستصبح عنصرًا مهمًا في فكر وممارسات العصر الجديد.

في الواقع، يونغ “لم يعالج نفسيًا الإيزوتيرية وحسب، بل هو أضفى مسحةً قُدسية على علم النفس بإدخال مضامين إيزوتيرية عليه. نتج عن ذلك مجموعةٌ من النظريات تسمح للناس أن يتكلّموا عن الله فيما هم يعنون في الحقيقة نفسياتهم وبالتالي يعنون الألوهة. هم يخلطون بين النفس Psyché والروح pneuma  ويقولون إذا كانت النفس هي “الروح” وإذا كان الله هو أيضًا “روح”، فالتكلّم عن أحدهم يعني التكلّم عن الآخر.

علم النفس والأسطورة الحديثة!

لا شكّ أنّ علم نفس يونغ يُضيء عدّة نواحٍ من الإيمان المسيحي، خاصةً ضرورة مواجهة حقيقة الشرّ، غير أنّ قناعاته الدينية تختلف اختلافًا بيّنًا خلال مختلف مراحل حياته، ما أنتجَ لديه صورةً مشوّشة عن الله. وعندما اتّهِمَ أنّه عالج المسيحية بطريقة نفسية، أجاب أنّ علم النفس هو الأسطورة الحديثة ونحن لا نستطيع أن نفهم الإيمان إلا على ضوء الأسطورة المعاصرة !

 ثمّ إنّ عنصرًا محوريًا وثنيًا يطغى في فكره هو عبادة الشمس[3] حيث الله هو الطاقة الحيوية للإنسان (ليبيدو). وكما يقول هو نفسه “هذا التشبيه ليس مجرّد تلاعب بالكلمات”. في الحقيقة يُشير يونغ إلى “الإله الباطني”، هذه الألوهة الأساسية التي كان يراها في كلّ كائنٍ بشريّ. إنّ مسار العالم الباطن يمرّ باللاوعي. وفي العالم الخارجي، ما يتطابق مع العالم الباطني هو “اللاوعي الجماعي”L’Inconscient Collectif .

ونقرأ أيضًا في الوثيقة “إنّ هذا الميل إلى الخلط بين علم النفس والروحانيات، استعادته حركة تنمية القدرات البشريةMouvement de développement du Potentiel Humain  الذي تطوّر في نهاية الستينيات في مركز إيسالنEsalen  في كاليفورنيا. إنّ علم النفس عبر الشخصيPsychologie Transpersonnelle  المتأثّر جدًا بالديانات الشرقية وإيزوتيريكية يونغ، يقترح مسارًا تأمّليًا حيث العلوم والتصوّف يتلاقيان، تشدّد فيه على الجسدانية، والبحث عن تقنيات (آليات) توسيع الوعي والإهتمام بأساطير اللاوعي الجماعي وتحفيز البحث عن هذا “الله الباطني” في الذات.

ولكي يحقّق قدرته الكامنة فيه، على الإنسان أن يتخطّى “أناه” ويصبح الله الذي هو في عمق أعماق ذاته.

من أجل تحقيق هذا الهدف، عليه أن يختار التقنية المناسبة: التأمّل، إختبارات ما وراء علم النفس (البارابسيكولوجيا) واللجوء إلى المهلوسات والمخدّرات. كلّ هذه الوسائل من شأنها أن تسمح بتحقيق تجارب نهائية أو صوفية، تذوب الإنسان بالله وبالكون.

إذن تتكلّم الوثيقة الفاتيكانية بصراحة كيف ألهم عالمُ النفس”كارل غوستاف يونغ” فكرَ العصر الجديد بفرضياتٍ تخلط علم النفس بروحانيات الشرق الأقصى والعلوم الباطنية. نتج عن ذلك نظرياتٌ غير مثبتة علميًا مهّدت فيما بعد لظهور علوم نفسية مزيّفة يُروَّج لها تحت عنوان علم النفس المعاصر.

لمجد المسيح.

 يتبع

[1]http://www.vatican.va/roman_curia/pontifical_councils/interelg/documents/rc_pc_interelg_doc_20030203_new-age_fr.html

[2] الهرمسية هي مجموعة من الممارسات والفلسفات المرتبطة بكتابات المجموعة الهرمسية والنصوص الإسكندرانية المنسوبة إلى شخص أسطوري اسمه هرمس المثلث التعظيمHermes Trismegiste تعود الى القرون الأولى للمسيحية. وهي المصدر الأساسي للباطنية الحديثة التي تتكلّم عن تقليد أساسي انبثقت عنه سائر الديانات. وقد توّلد عن هرمسية عصر النهضة ما يسمى بالسحر الراقي أو السحر الإحتفالي

[3]  في كتابها العقيدة السرية تدعو هيلينا بلافاتسكي إلى عبادة الإله الشمس. هذا الإعتقاد أخذته من ديانات الحضارات الوثنية القديمة ومن الهندوسية وممارساتها كاليوغا. بالفعل كلّ جلسة يوغا تبدأ بالسجود للإله الشمس بإثنيْ عشر حركة تسمى Sun Salutation،Suriya Namaskar

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

جيزل فرح طربيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير