القدّيسُ شربل في عظة البابا لاون الرابع عشر: قراءةٌ روحيَّةٌ في رسالةِ نورٍ معاصرة

عظة البابا عند ضريح القدّيس شربل ليست مجرَّدَ خطابٍ رعويّ، بل هيَ نصٌّ لاهوتيٌّ وروحيٌّ عميق

Share this Entry

مقدمة

في زيارة تَحمِلُ بُعدًا كنسيًّا وروحيًّا استثنائيًّا، جثا قداسة البابا لاون الرابع عشر بخشوع عند ضريحِ القدّيس شربل في دير مار مارون – عنّايا، ليتلو صلاةً ويتأمّل في حياة راهبٍ ناسك، مقدِّمًا للكنيسة قراءةً معاصرةً في روحانيَّته ورسالته ومكانته في الكنيسة الجامعة، وفي عالم اليوم، مُنَوِّهًا بأربعِ ركائزَ أساسيَّةٍ شَكَّلَت مدخلاً لروحانيَّتِه: الصلاة، الصمت، التواضع والفقر.

وقد جاءت عظة البابا في الأوّل من كانون الأوّل 2025، في لحظةٍ تاريخيَّةٍ تَزَامَنَت مع أوّلِ زيارةٍ رسوليَّةٍ له خَارِجَ روما، شَمَلَت تركيا لمناسبة مرور سبعة عشر قرنًا على انعقاد مجمع نيقية الأوّل سنة 325، تلتها زيارة راعويَّة إلى لبنان امتدّت من 30 تشرين الثاني إلى 2 كانون الأوّل 2025. وفي اليوم الأوّل من كانون الأوّل، قصد البابا لاون الرابع عشر دير مار مارون- عنَّايا حاجًّا إلى ضريح القدّيس شربل، كأنّه أحدُ خزّانات الطاقة الروحيَّة في العالم.

تحمل عظة البابا من العمق والدلالات ما يدعو إلى التوقّف عنده والتأمّل فيه، باعتبارها نصًّا مؤسِّسًا لرؤية كنسيَّة جديدة تجاه القدّيس شربل، وهي الأطوَل من قِبَلِ الباباوات بعد البابا القدّيس بولس السادس في عِظَتَي التطويب والتقديس.

  1. شربل: قديسٌ صاغه الروح القدس

منذ مستهلّ العظة، يُلخّص البابا إرث القدّيس شربل مبيّنًا أنّه ليس ثمرة اجتهاد إنسانيّ بقدر ما هو عملٌ إلهيّ نسجه الروح القدس بيديه، ليجعله علامةً ورمزًا. يقول قداسته: “الرّوح القدس صاغه وكوّنه، لكي يُعلّم الصلاة لمن كانت حياته بدون الله، ويُعلّم الصمت لمن يعيش في الضوضاء”.

هنا تتجلّى رؤية لاهوتيَّة نقيَّة وواضحة: فالقداسة ليست مشروعًا فرديًّا ولا حصيلة جهد بشريّ صرف، بل هي تجاوبٌ حرّ مع مبادرة الله وعمله في القلب. وفي ضوء ذلك، يغدو شربل “إنجيلاً حيًّا” يحمل للإنسان المعاصر رسالةً تُعيد إليه معنى الصمت، وعمق الصلاة، وجمال التقشّف في عالم فقد هذه الأبعاد الجوهريَّة. ويقول البابا بأنَّ القدّيس شربل “يُذكّرنا، بصورة خاصّة، نحن الأساقفة والخدّام المرسومين، بمتطلّبات دعوتنا الإنجيليَّة”. أي دعوة البابا للأساقفة والخدّام المرسومين التَمَثُّل بالقدّيس شربل من خلال اكتشاف الغنى الحقيقي في الفقر الروحي، والراحة والحقيقيَّة في الصلاة والصمت، والسلطة الحقيقيَّة في التواضع والطاعة، وبذلك يصبحونَ رعاةً بِرَائحَةِ الخراف، وليسوا رعاةً برائحة العالم. ويتابع قداسته بأنّ القدّيس شربل طابَقَ إيمانَهُ لمنطق حياته، واتَّصَفَ بالجذريَّةِ بعيشه مبادئَ الإيمان المسيحيّ وقوانين الحياة الرهبانيَّة والنسكيَّة، ومستلزماتها التطبيقيَّة. ويقدِّمه البابا مثالاً ومعلمًا لحياة الروح “لكلّ المسيحيّين”.

إنّ “صياغة وتَكْوِين” القدّيس شربل، تعني أنّ الروح القدس عمل فيه بطريقة مميّزة وكثيفة، وهو بدوره تجاوب طوعًا، ففتح عقله وقلبه وكيانه بأكمله لعمل النعمة، فانعجنت حياته بالروح وتطهرّت بناره، واتّجهت نحو قمم المحبّة الإلهيّة. وفي كلام البابا إشارةٌ بيّنة إلى أنّ الروح قد هيّأه ليكون معلّمًا لا عبر الأقوال، بل عبر حياته بأسرها.

إنَّ عمل الروح الإلهيّ في القدّيس شربل جعله معلمًا للصلاة لأولئك الّذين يعيشون “بدون الله”، أو في بعد عنه. كانت حياة القدّيس شربل صلاة مستمرّة في حضرة الله، وها هو اليوم يدعونا إلى الاِقتداء به مبتعدين عن التلهّي بروح العالم. كما ويدعونا القدّيس شربل إلى “الصمت”، في زمنٍ باتَ غارقًا في الضجيج، فصمت القدّيس شربل كان وسيلةً للاِنقياد لصوت الروح القدس والعيش في ملء الحضور الإلهيّ. العيش الدائم في ملء الحضور الإلهيّ وكثافتِهِ جعل من القدّيس شربل قدوةً في التواضع والفقر مظهرًا أنَّ الغنى الحقيقيَّ يكمن في التخلّي عن المادّيّات والاعتمادِ الكُلِّيِّ بثقةٍ على عمل مواهب الروح القدس فيه والانقياد إليه.

          هكذا يُصبح مار شربل تُحْفَةً فنيَّة من خلق الروح القدس، ورسالةً حيَّة تتردّد أصداؤُها في أجيالٍ تتعطّش إلى حضور الله، من خلال الاِقتداءِ بِمَثَلِهِ والتَشَفُّع إليه.

  1. شربل: قديسٌ نبيّ لزمن الضجيج

          يُبرز البابا القدّيس شربل كصوتٍ مضادّ للتيار. ففي عالمٍ يتّجه نحو الاستهلاك والضوضاء وحبّ الظهور، يقدِّم هذا الراهبُ الناسكُ نموذجًا معاكسًا جذريًّا: “أمّةٌ تسير عكس التيار… ولهذا ننجذب إليه كما ينجذب السائر في الصحراء إلى الماء الحيّ“. تشبيهٌ بليغٌ يستعيد لغة الآباء الروحيّين والليتورجيا الشرقيّة، حيث يصبح الصمتُ ينبوعًا للحياة الداخليَّة وللاتّحاد بالله. فليست رسالة مار شربل هنا رومانسيَّةً نسكيَّة، بل دواءً روحيًّا يقترحه البابا على عالمٍ يفتقدُ إلى المعنى.

ويُمثِّل القدّيس شربل الماءَ النقيّ العذب، رمز الإيمان الحيّ والبساطة الإنجيليَّة والسكينة الَّتي يحتاجها الإنسان المعاصر. والانجذاب إليه علامةٌ على العطش الروحيِّ المتنامي في زمنٍ تغلب عليه الماديَّة. وهكذا يبقى القدّيس شربل نموذج المؤمن السائر عكس التيّار، كما يقدّمه البابا، مثالًا للتخلّي عن قِيَمِ العَصرِ السائدةِ الّتي تقود إلى الضياع والمادّيّة والاستهلاك والصخب والقلق واللامعنى…

أمّا من الناحية الرهبانيَّة، فيجسّد مار شربل أسمى تجلّيات الحياة الرهبانيّة الّتي بطبيعتها تسير “عكس التيّار” العالميّ. فالرهبان يتركون صخب العالم وضجيجه ليحيَوا في صمت وسكينة وهدوء وتجَرُّد، مقدّمين شهادة حيَّة تشهد لحقيقة الله في زمن يغمره الاستهلاك والضوضاء.

وقد استعمل قداسة البابا عبارة “ننجذب إليه”، في إشارة إلى أنّ القدّيس شربل لا يفرض نفسه ولا يُجبر أحدًا على الاقتداء به، بل إنّ قدسيّته المتواضعة تشعّ كرمز ومثال لمن اقتدى بالمعلّم الإلهيّ، فصار نموذجًا لطريقٍ يقود نحو الملكوت، ملء الحياة في الله.

في هذا الإطار، يبقى الإنسان متعطّشًا إلى الروحانيَّة، مدركًا أنّ الحلّ لا يكمن في مزيد من الضجيج والماديّات، بل في العودة إلى الحقيقة الجوهريَّة الّتي عاشها القدّيس شربل: اتّباع المسيح بجذريّة إنجيليّة مطلقة، والتجرُّد من كلّ ما يَشدّ إلى العالم، ليستمطر على البشريَّة بركات السماء.

  1. شربل: قدّيسٌ شفيعٌ وشاهد

لا يكتفي البابا لاون الرابع عشر بالإشارة إلى نسك القدّيس شربل، بل يوسّع مفهوم القداسة ليشمل رسالته الشفاعيَّة. فيقول: “لم يتوقّف القدّيس شربل قطّ عن التشفّع لنا أمام الآب السماوي، ينبوع كلّ خيرٍ ونعمة. ففي حياته على الأرض، كان الكثيرون يأتون إليه لينالوا من الله العزاء والمغفرة والنَصيحة. وبعد وفاته تضاعف ذلك وصار نهرًا من الرحمة”.
هذا وصفٌ لاهوتيّ عميق لاستمرار علاقة القدّيسين بالمؤمنين، ولحقيقة “شركة القدّيسين” الّتي تحياها الكنيسة. وهكذا يُصبح مار شربل، في منظور البابا، علامة رحمة متدفّقة على الأرض، ورابطًا حيًّا بين السماء والإنسان.

يُبرز هذا القول لقداسة البابا أهميَّة شركة القدّيسين في إيمان الكنيسة الكاثوليكيّة، كما أشرنا أعلاه. فالقدّيسون، ومنهم مار شربل، لا ينفصلون عنّا بالموت، بل يتّحدون بالله اتحادًا أعمق، فيغدون أكثر قدرة على الصلاة من أجلنا والتشفُّع بنا. ويؤكّد البابا أنّ شفاعة مار شربل لدى الله، الّتي تميّزت بها حياته الأرضيّة، قد تضاعفت بعد مماته؛ وهذا يدلّ على أنّ مار شربل، المتمتّع الآن بفرح السماء في حضرة الله، بات يمتلك فهمًا أعمق لاحتياجاتنا وقدرة أعظم على رفع صلواتنا إليه، ويتابع البابا مُعطيًّا مثالاً حول حَجِّ آلاف المؤمنين في الثاني والعشرين من كلّ شهرٍ إلى ضريح القدّيس شربل “من بلدان مختلفة لقضاء يوم صلاة وتجديد للرّوح والجسد”.

من هنا غدا مار شربل قناة رحمة تفيض على البشريّة نعمًا وبركات سماويّة. فكلام البابا يملأ قلوب المؤمنين رجاءً كبيرًا، إذ يطمئنهم أنّ لهم في السماء شفيعًا ومحبًّا يرافقهم ويهتمّ بشؤونهم. أمّا المعنى الواقعي لعبارة “نهر الرحمة” فيظهر جليًّا في المعجزات والشفاءات الكثيرة الّتي يصنعها الله بشفاعة مار شربل.

باختصار، يؤكّد البابا أنّ مار شربل هو مثال حيّ لعقيدة شفاعة القدّيسين، وأنّ موته لم يكن نهاية رسالته، بل بداية فيض من النِّعم الإلهيّة الّتي لا تنضب، وتتدفّق على العالم بأسره. كما ويؤكد أنّ شفاعته لا تزال مستمرّة وفعالة، وهي مصدر للعزاء والمغفرة، وأداة للسلام والوحدة، ووسيلة لاِهتداء القلوب، ورمزًا إلى الأمل والحماية.

  1. شربل: قديسٌ شفيعٌ لبلد الأرز

تحمل عظة البابا لاون الرابع عشر أمام ضريح القدّيس شربل بعدًا وطنيًّا لافتًا، إذ يسلّم قداسته لبنان إلى شفاعة هذا الناسك المشرقيّ قائلاً: “نريدُ اليوم أن نوكل إلى شفاعة القدّيس شربل كلّ ما تحتاج إليه الكنيسة ولبنان والعالم “. ثمّ يُحدّد احتياجات اليوم بروح رعويَّة واضحة:

  • الشركة والوحدة في الكنيسة: يُبرز البابا هذا البُعد انطلاقًا من محبّة المؤمنين من مختلف الطوائف المسيحيّة للقدّيس شربل، فهو قدّيس يتخطّى الانقسامات التاريخيّة والخلافات الكنسيّة. وما أصغر خلافاتنا كمسيحيّين أمام بهاء قداسته وقدرته على جمع القلوب حول المسيح. وهكذا بات مار شربل قدّيسًا شفيعًا يحمل بُعدًا مسكونيًّا في حضوره الروحي، على مثال القدّيس إسحق السرياني (القرن السابع) الّذي ألهم مسيحيّين من تقاليد كنسيّة متعدّدة. ويبقى القدّيس شربل ملاذًا للعائلات -“الكنائس البيتيَّة الصغيرة”-، ولشعب الله بأكمله.
  • السلام في العالم، “وبصورة خاصة من أجل لبنان وكلّ المشرق”: حين يطلب البابا السلام للعالم بشفاعة مار شربل، فهو يرفع إلى الله صرخة البشريَّة الجريحة.
    لكنّه، في ذكره لبنان والمشرق، يضع يده على جرحٍ ينزف منذ زمن.
    إنّه سلامٌ شامل، يحمل في قلبه محبّة خاصّة لهذه الأرض المهدَّدة برجائها.
    هكذا تصبح الصلاة التزامًا ورسالة، لا مجرّد كلمات تُقال.
  • توبة القلب باعتبارها الطريق إلى أَي سلام حقيقي: توبة القلب هي العودة الصادقة إلى الله، حيث يتطهّر الداخل من الخطيئة والأنانيّة. وهي الطريق إلى السلام الحقيقيّ لأنَّ السلامَ لا يولَدُ من الخارج بل من شفاء القلب من جروحه. فحين يتصالح الإنسان مع الله ومع ذاته، يُصبح قادرًا على المصالحة مع الآخرين. وهكذا تتحوّل توبة القلب إلى ينبوع سلام ينتشر في العائلة والمجتمع والعالم. لذا، تدعو روحانيَّة القدّيس شربل، انطلاقًا من تعليم البابا لاون الرابع عشر إلى “توبة القلب”، أي العودة إلى الله، وتغيير المسار الشخصيّ الحياتيّ للإنسان، وهذا يُمَثِّلُ شرطًا أساسيًّا لتحقيق السلام على مستوى الفرد والمجتمع ولبنان والشرق الأوسط بأكمله. وفي هذا الصدد يقول قداسته: “فليساعدنا القدّيس شربل كي نتوجَّه إلى الله ونسأله نعمة التوبة لنا جميعًا”.

طلب البابا شفاعة القدّيس شربل من أجل السلام والوحدة، ليس مجرّد أمنية عامة، بل إعلانٌ عن حقيقة روحيَّة أساسيَّة: أنّ السلام الخارجيَّ في لبنان لا يبدأ إلّا من مصالحة القلوب، وأنّ الوحدة الوطنيّة لا تقوم على التوافق السياسيِّ وحده، بل تتأسّس على المصالحة الروحيَّة بين الناس. في هذا السياق، يتحوّل مار شربل من قدّيس مَحَلِّيٍّ ووَطَنِيٍّ إلى حارس روحيٍّ لوحدة الكنيسة، وسلامٍ للأمّةِ اللبنانيَّة والمشرق بأكمله، إذ تُجسّد حياته النسكيَّةُ والتزامُهُ بالصلاةِ مثالاً حيًّا لقداسةٍ تصنع الانسجامَ الداخليِّ والخارجيِّ معًا. وهذا ما انعَكَسَ في تاريخ حياته سلامًا مع الخليقة كالحيَّة وابن آوى…

  1. شربل: قدّيسٌ اهتدى بنور المسيح

حين قَدَّمَ قداسةُ البابا القنديل وأضاءَهُ أمام ضريح القدّيس شربل، لم يكن مجرد هديَّة مادّيّة، بل كان إعلانًا عن نورٍ سماويٍّ يُشِعُّ من حياة القدّيس شربل، وعلامة روحيّة كثيفة المعاني. قدّم قداسته قنديلاً فضيًّا مصنوعًا باليد، مجسّمًا على هيئة شجرة زيتون، تلك الشجرة الّتي تحمل في جذورها تاريخ السلام، وفي أغصانها وعد المصالحة والحياة.
إنّه قنديل يجمع في رمزيّته بين السلام والنور: الزيتونة الّتي تُنبت السلام، والقنديل الّذي يحمل نورًا لا ينطفئ.

القنديل هنا ليس زينةً، بل علامةً على حضور الله الّذي يضيء دروب شعبه، ويحوّل الظلام إلى بصيرة، والاضطرابَ إلى سلام. فيه تكريس لبنان وشعبه إلى حماية القدّيس شربل، حاملين معه الرجاء بأن يسلكوا دومًا في نور المسيح الّذي لا ينطفئ. يقول قداسة البابا: “أيُّها الأعزاء، رمزًا للنُّور الّذي أضاءه (اللهُ) هنا بواسطة القدّيس شربل، احضرتُ معي هديَّةً، قنديلاً. أُقدّم هذا القنديل، وأُوكلُ لبنان وشعبه إلى حماية القدّيس شربل، حتّى يسير دائمًا في نور المسيح”.

ليس القنديل الّذي أهداه البابا مجرَّدَ جسم مضيء، بل يبقى رمزًا للرحمة الإلهيَّة الّتي تنبثق من المسيح بشفاعة مار شربل. إنه يدعونا إلى التأمّل في النور الّذي يمنحه الله لكلّ قلب مفتوح، وفي التزامنا بالسير في نور المسيح. بهذا القنديل، يُوكِلُ قداسةُ البابا لبنان إلى شفاعة القدّيس شربل، لتكون حمايتُهُ نعمةً مستمرَّة، ويظلُّ شعبُهُ متوهِّجًا بالنور الإلهيّ وسطَ كُلِّ محنة، ثابِتًا على الطريق الّذي يقوده الله.

بهذه الرمزيَّة، يتجلّى لاهوت النور، وهو محور أساسي في كلا التقليدين الشرقيّ والغربيّ، ليصبح القدّيس شربل علامة مشرقة لنور المسيح في زمن الظلمات الحالكة.

خاتمة

في هذه العظة، يضع البابا لاون الرابع عشر القدّيس شربل في سياق عالميّ، إذ “انتشرت سمعته في كلّ العالم”، لا على مستوى الحجّ إلى ضريحه فحسب، بل على مستوى الرسالة الروحيّة الّتي تتخطى الحدود، فغدا القدّيس شربل عابرًا للقارّات واسمًا يردِّدُه العالم. فالقدّيس شربل، الّذي “لم يكتب” و”عاش متخفِّيًا وصامتًا”، صار صوتًا يصل إلى كلّ العالم، مؤكِّدًا أن ما يبدو صغيرًا في نظر البشر، يصبحُ عظيمًا في ملكوت الله، بقوة الروح القدس، الّذي “صاغهُ وَكَوَّنَهُ”، ومن صومعةٍ صغيرة على قمّةِ عنّايا أصبح رسولَ بَلَدِ الأرز في كلّ أصقاع المعمورة، فبقدر ما صَمَتَ في حياته تكلّم بعد مماته تشفّعًا وعجائب “كنهر رحمة”، وإقامته في المحبسة لم تكن عزلةً وانعزالاً، بل انفتاحًا على الله، ومنه على الإنسان والخليقة بأسرها والكون بأجمعه…

إن عظة البابا عند ضريح القدّيس شربل ليست مجرَّدَ خطابٍ رعويّ، بل هيَ نصٌّ لاهوتيٌّ وروحيٌّ عميق، يقدّم القدّيس شربل كعلامةٍ لزماننا، كنبيٍّ للصلاة والصمت، وكشفيعٍ للكنيسة وللبنان وللمشرق بأسره. هي عظة تؤسّس لمرحلة جديدة في موقع القدّيس شربل داخل الوجدان الكنسيّ العالمي، وتعيد قراءة قداسته باعتبارها رسالة حيّة وضروريّة لعالم يبحث عن نورٍ في زمن العتمة، مردّدين قول البابا: “سيروا في نور الله”.

ونختتم مقالنا  هذا، بصلاة قداسة البابا أمام ضريح القدّيس شربل:

“يا الله، يا من منحتَ القدّيس شربل نعمةَ حفظ الصمت في الحياة المستترة، وأنارَتْهُ بنور الحقيقة ليتأمّل في عمق محبّتك، امنحنا نحن أيضًا، السائرين على خطاه، أن نُجيد في بريّة هذا العالم جهادَ الإيمان الحسن، وأن نسير بفرح في آثار المسيح ابنك.

هذا الخادم الّذي عاش سرّ الصلاة في الخفاء، وغلب التجارب بأسلحة التوبة، ليكشف لنا سموّ رحمتك، ويعلّمنا صمت الكلمات وقوّة الإشارات الّتي تفتح القلوب.

وبشفاعة يسوع المسيح، الغالبِ الخطيئةَ والموت، هبْ لنا صحة الجسد والروح، واجعل شفاعته ترافقنا دائمًا، لكي نستحق أن نشارك القدّيسين في ملكوتك الأبدي.

لكَ المجد والتسبيح، أيّها الآب والابن والروح القدس، آمين”.

Share this Entry

الأب شربل رعد

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير