و فيما نتأمل و نتابع مراحل هذا الحوار الشيّق في إطاره الطبيعي والتاريخي والروحي ، مستنتجين من خلاله طريقة التعليم التي اعتمدها السيد المسيح وجوهر رسالته ، نسأل الله أن يعطينا أن نعرف سمو عطائه فنعمل على أن نحيا منه وفيه ” الحياة الأبدية ” .
١ – الإطار الطبيعي والتاريخي :
شاء يسوع أن ينتقل من اليهودية إلى الجليل مفتتحاً فيه أعمال التبشير رالكرازة . وكان قد شعر بما يحوك له الفريسيّون من اكاذيب ودسائس، وقد رأوا الناس يتقاطرون إليه حتى أصبح له من التلاميذ أكثر مما كان ليوحنا . وكان بين اليهود والسامريين خصومات قديمة تمنعهم من الالتقاء والتكلم مع بعضهم ، ( راحع اسباب ذلك في سفر الملوك الثاني ١٧ / ٢٤ ) ، وراجع ( لوقا ٩/ ٥٢ ) ، وهي خصومات بعض أسبابها ديني سببه أن السامريين كانوا ، خلافاً لليهود، لا يتمسكون إلاّ بالتوراة فقط دون سواها من أسفار الكتاب المقدّس ، ويحصرون العبادة في مدينة يقال لها سيخارة وهي مدينة في السامرة على جبل جرزيم . ولهذا كان اليهود يتحاشون المرور في السامرة ، وكان الكثيرون منهم يفضّلون الذهاب من اليهودية إلى الجليل عن طريق عبر الأردن.
أمّا يسوع فتجاهل هذه الاعتبارات وسلك طريق السامرة بصحبة عدد من تلاميذه . ولما اجتازوا بعض الطريق وصلوا إلى حقل كان أعطاه يعقوب لإبنه يوسف ( تكوين ٣٣ : ١٨- ٢٠ ويشوع ٢٤ : ٣٢ )، فيه بئر عرفت باسم بئر يعقوب لا يقل عمقها عن الثلاثين متراً ويأتيها ماء حي من ينبوع مجاور . وحانت ساعة الظهر وأحس التلاميذ بالجوع والتعب . ولم يكن معهم طعام فتابعوا المسير إلى أقرب مدينة منهم وهي سيخارة وتقع على كيلو متر واحد من بئر يعقوب إلى الغرب . أما يسوع فأراد أن يتخذ قسطاً من الراحة ، فجلس على حافة البئر وراح يمتع النظر بما ينبسط أمامه من مناظر خلابة فيها أودية وتلال وينابيع ومروج خضراء يعلوها جبلا عيبال وجرزيم ، وهذا ما جعل من السامرة أجمل بقاع مملكة داود وسليمان .
وما أن توارى التلاميذ عن البصر حتى رأى يسوع امرأة سامرية تقترب منه وعلى كتفها جرّة فارغة وهمّت بالاستقاء دون أن تحيّيه . لقد رأت الجالس على حافة البئر وعرفت أنه يهودي ورجل دين ، وما كان من سبيل إلى الكلام بين اليهود والسامريين ، وما كان لرجل دين أن يتحدّث مع إمرأة على الطريق العام .
لكن يسوع شاء أن يخرق التقليد فأقام مع هذه السامرية حواراً كشف فيه عن طريقته فى التعليم وعن جوهر رسالته .
٢ – طريقة يسوع في التعليم :
كان يسوع يحرص على أثارة الفضول لدى السامع واسترعاء الانتباه ، فيستدرجه من العادي إلى الخطير من الشؤون . وهذا ما نشهده في هذا الحوار، وقد استولت الدهشة فيه على هذه السامرية حتى كادت تفقد الصواب لعجز مداركها عن استيعاب ما سمعت من حقائق سامية وأوّلها ” الماء الحي ” .
أ- الماء الحي : بادر يسوع المرأة بالكلام قائلاً لها ” اسقيني ” ( يوحنا ٤ : ٧ ) ، وهذا ما أثار دهشها وعجبها ، فقالت له : ” كيف تسألني أن أسقيكَ وانت يهوديٌّ وانا امرأةٌ سامر ّيّة ؟ ” وزاد عجبها عندما رأته يبدّل موقفه ، فيعرض عليها ماء من شرب منه لا يعطش أبداً، ويُضيف قائلاً : ” لو كُنتٍ تعرفين عطاء الله ، ومن هو الذي يقول لكِ : : اسقيني ، لسألتِهِ أنت ، فأعطاك ماءً حياً ” ( يوحنا ٤ : ١٠ ) . وتحار في رباطة جأشه وثقته من نفسه فتقول له : ” يا ربّ ، لا دَلوَ عندك ، والبئر عميقة ، فمن أين لك الماء الحي؟ هل انت أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر ؟ ” ، وما كانت تصدق ما سمعت لفرط الدهشة عندما قال لها : ” الماء الذي أعطيه إياه يصير فيه عين ماء يتفجر حياة أبدية “. هي عبارات مذهلة فجّرت ينابيع الخلاص في العالم . وقالت المرأة في عفوية : ” سيدي أعطني هذا الماء لكي لا أعطش فأعود إلى الاستقاء من هنا ” .
وكيف لها أن تحصل على ماء الحياة وهي تتمرغ فى أوحال الخطيئة ؟.
ب – التوبة : وانتقل الحوار إلى موضوع التوبة وجاء الانتقال في الظاهر مفاجئاً ولكنه يدل على ترابط محكم بين جزئي هذا الحوار . أراد يسوع أن يوقظ هذه المرأة من غفلتها ، وأن يجبرها على الغوص في أعماق نفسها فتستأصل منها ما عشش في قرارتها من خطايا . لذلك فاجأها بقوله لها : ” اذهبي فادعي زوجك وارجعي إلى ههنا ” فاجابته بكل بساطة : ” ليس لي زوج ” وكان ينتظر منها هذا الجواب وظنت أنها تخدعه . ولكنه كشف لها حقيقتها فقال لها في صوت حزين : ” لقد صدقت . قد اتخذت خمسة أزواج ومن يصحبك اليوم ليس بزوجك ” . وصعقت المرأة لدى سماعها هذه الحقيقة الجارحة وشعرت أنها أصيبت في الصميم ، ولا سيما أن شريعة الطلاق لدى السامريين كانت أضيق منها لدى اليهود . وحاولت الخروج من هذا المأزق فأثارت ما كان يدور من جدل قديم بين اليهود والسامريين حول مكان العبادة . فقالت : ” قالت يا رب ، أرى أنك نبيّ . قد تعبد آباؤنا في هذا الجبل ، ( وقد بنى السامريون في أعله هيكلاً لينافسوا به هيكل اورشليم ) ، وأنتم تقولون : إن المكان الذي فيه يجب التعبد هو أُورشليم ” . وانتقلت بالحديث من اامستوى الأخلاقي إلى المعنى الديني ، وهذا ما كان يرمي إليه يسوع فأخذ يُحدّث المرأة عن عبادة الله . ومن التوبة تأتي العبادة .
ج – العبادة : فاه السيد المسيح بكلمات هي أعمق ما قيل في ماهية الدين ، فخاطب المرأة وكأنه يخاطب البشر أجمعين فقال : ” صدِّقيني ، أيتها المرأة تأتى ساعةٌ فيها تعبدون الأب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم ….فيها العباد الصادقون يعبدون الآب بالروحِ والحق فمثل أولئك العباد يُريد الآب . إن الله روح فعلى العباد أن يعب
دوه بالروح والحق ” ( يوحنا ٤ : ٢١ – ٢٤ ) . فأعلمنا أن الله أب وأنه روح وأن عهد الروح قد بدأ به وها هي ساعته الآن وأن العبادة لن تنحصر فيما بعد في هيكل أورشليم أو جبل جرزيم وتنبأ بانهم سيهدمان بعد بضع سنوات ، وعرّفنا ان العبادة تكون في كل مكان من الأرض ، حيث تصفو النيات وتتنقى القلوب من أدران الكفر والحقد والصغائر وسيعرف المؤمنون من يعبدون خلافاً للذين كانوا يعبدون ما يجهلون . وادركت المرأة ما سمعت فإذا بها تلجأ إلى مثل كل الناس يرددونه فى أيامها، فتقول : ” إني أعلم أن المسيح آتٍ ، وهو الذي يُقال له المسيح ، وإذا أتى انبأنا بكل شيء “. ودخلت من دون وعي و قصد منها في موضوع المسيح وهذا ما كان يسوع ينتظره ، وقد أراد أن يفهمها أن العبادة الحق لا تستقيم دون المسيح فكشف عن نفسه وقال ” أناهو ، انا هو المسيح الذي يُكلّمكِ ” . يعني أنا موضوع العبادة .
د- المسيح : أصاب السامرية ما أصاب التلاميذ عندما كان يسوع يحدثهم عن حقيقة أمره، فلم يكونوا قادرين على فهم أقواله . لذلك أراد أن يحسم الجدل ويختم الحوار مع المرأة بجواب قاطع جازم فقال لها : ” أنا هو ( المسيح ) ، أنا الذي يكلمك ” ( يوحنا ٤ : ٢٦ ). لقد باح بسره . أطلق الكلمة التي كانت تنتظرها الأرض بأجمعها باح بها لأول مرة لأمرأة من السامرة مشهور أمرها ولكنها تفتحت لمياه النعمة ، فتركت جرّتها وذهبت تبشّر بالمسيح ، فخرج الناس وساروا إليه ليتعرّفوا عليه ويسمعوا إلى تعاليمه .
٣ – جوهر رسالته :
ورجع التلاميذ، وكان قد انتهى الحوار، ” فعجبوا إذ رأوه يحادث امرأة على قارعة الطريق وفي رابعة النهار . ولكن لم يقل أحد منهم ” ماذا تريدين منه ؟ ولماذا تحادثها “. وتركت الجرّة، وما حاجتها إليها وقد ملأت قلبها من ماء الحياة الأبدية ؟
وعندما سأله تلاميذه خلال ذلك أن يأكل فأجابهم قائلاً : ” لي طعامٌ آكُلُه انتم لا تعرفونه ” فلم يفهموا وظنوا أن أحداً جاءه بطعام ، فأوضح لهم ما عنى فقال : ” طعامي أن أعمل بمشيئة من أرسلني وأن أُتم عمله ” ( يوحنا ٤ : ٣١ -٣٤ ) . وترآت له في البعيد جموع السامريين آتين إليه ومن ورائهم جماهير المؤمنين في كل عصر فهتف بتلاميذه قائلاً : ” أرفعوا عيونكم وأنظروا إلى الحقول ، تروها قد ابيضت وحان وقت الحصاد ” ( يوحنا ٤: ٣٥ ) .
لقد بدأ رسالته وهو بحاجة إلى حصّادين يسيرون معه و يعاونوه .
آمن به السامريون قبل اليهود . آمنوا به لما سمعوا من السامرية ابنة قومهم تخبرهم عن كل شيء تخصها كلامها عنها . وآمنوا على الأخص لأنهم سمعوه ورأوه وقد قضى في ضيافتهم يومين تلبية لدعوتهم ، وعلموا أنه ” مخلص العالم حقاً ” . فاكتشفوا حقيقة رسالته وهي خلاص العالم .
اللهم أعطنا أن نعرف عطاءك فننهل من هذا الماء الذي إذا شربنا منه لا نعود نظمأ أبداً.