أرملةٌ فقيرة ، أرملةٌ في الهكيل ، من الشخصيّات المجهولة التي تُنسى في قراءتنا للإنجيل . فلا نُعرها إهتمامًا كافيًا ، ولا التركيز في مضمون ما تحمله بالنسبة ِ لموضوع ” الخلاص والعطاء ” . إنّ مَن له القدرة على الفهم والإستيعاب في هذه الرواية السريعة هو يسوع فقط ، لإنه متخصّص في علم قراءة باطن الإنسان ، لإنه داخلٌ في قلب ومنطق الله .
أرملة في الهيكل ، نراها في إنجيل مرقس ولوقا ، لكنني هنا سأركز على الرواية كما جاءت في إنجيل مرقس . الحدث هذا الذي يلتقي فيه يسوع بأرملة ٍ داخل الهيكل ، مدهش في نواحي عدّة . هو بالفعل ، إحدى الشخصيّات (التي قد تكون الوحيدة) حيث لا نجد أيّ إتصال ٍ مباشر لإحدى الشخصيّات بيسوع : لا كلمات متبادلة ، ولا أيّ حركة من جهة . لكن ، هناكَ من الجهة الأخرى ، ” لحظة مصيريّة ” في حبكة الرواية : بعد أن واجه يسوع خصومًا من الفئات الممكنة كافة ( مرقس 11 : 27 ) ، يخرج من ” الهيكل ” ( مركز العبادة عند اليهود ) بشكل نهائيّ ، ويُعلن عن ” خرابه ” ( مر 13 : 1 – 3 ) ليسير متوجّها إلى آلامه .
ما الذي ساعدَ دخولَ الأرملة في المشهد ؟
مشهدُ ” الأرملة الفقيرة ” ، لا يمكننا أن نراهُ وكأنّه مشهد ” عابر ” وإنتهى الأمر . ليس مشهدًا جامدًا ولا معنى له ، أو أن الذي وضعه ( وهو مرقس ) ، وضعهُ لملأ الفراغات في روايات الإنجيل ! كلّا ، المشهدُ هو إنتقاليّ ، يسمحُ بالعبور من مجموعة الجدالات الدائرة في الهيكل (مرقس 11 : 27 ) ، إلى الخطاب المطوّل حول ” نهاية الأزمنة ” التي افتتحها خرابُ الهيكل ( مرقسس 13 ) . ويجبُ أن نكون منتبهين إلى السياق الأدبيّ للنصّ .
مَن ساعدَ على دخول مشهدُ الأرملة الفقيرة هذا ، هو تصرّف الكتبة تجاه الأرامل . إنّ كلمة ” أرملة ” ، لا تظهرُ إلاّ هنا في مرقس 12 : 40 . إن حادثة الخروج من الهيكل ، تُبرز المشهد الذي سبق ، لإنّ التلميذ الذي يحدّث المعلّم عن جمال حجارة الهيكل هو بدون شكّ من بين المجموعة التي كان يسوع يُفسّر لها معنى هذه الحركة غير الملحوظة .. وقد قامت بها تلك التي ألقت بكلّ ما تملكه لمعيشتها . فيسوع لا ينظرُ إلى الحقائق التي ينظر تلاميذه إليها . إن نظرة يسوع إلى هذه الأرملة ، نظرة تعطي ” معنى ” ، فهو ، في كلّ مرّة ، يهبُ معنى لما يرى . وهنا أذكر جملة قالها الأب فرنسوا فاريون : ” على المسيحيّ أن يعطي معنى لما لا معنى له ” . هناكَ فرقٌ بين : ما يراه يسوع ، وما يفسره التلاميذ .
تفوّقت الأرملة على ما تتطلّبة الشريعة الموسويّة . لقد مسّت ” الأرملة ” التي لا تملكُ شيئا سوى ” درهمين ” ، العصب المؤلم عند اليهود “، وهي أيضا ، ” مسمارًا حادّا ” على التلاميذ ولنا أيضا . يقول القدّيس يوحنا فم الذهب : ” لما ألقت الأرملة الدرهمين ( وسنرى رمزيّة الدرهمين لاحقا ) في الخزانة ، لم يُعطيها الربّ مكافأة تساوي درهمين فقط ، لماذا كان ذلك ؟ لإنه لم يُعِره إهتمامًا لكميّة مالها ، فقد اهتمَ بغنى ” عقلها ” . فماذا يحتاجُ اليوم العالمُ في خضمّ هذه المآسي والصراعات والقتل والذبح ، إلا إلى ” العقل وغناهُ ” .. الفاقد العقل ، يعملُ أيّ شيء ٍ لا إنسانيّ .