Time clock

Robert Cheaib - https://www.flickr.com/photos/theologhia

التشتت عن الحاضر

ما هي دعوتي (12)

Share this Entry

حاضر الإنسان يُصرف في زمن المستقبل، إلا أن المستقبل لا يبدأ غدًا، بل اليوم! ولكي لا نسيء فهم طبيعة توجه الإنسان إلى المستقبل، يجب أن ندرك أن وجهة المستقبل لا يجب أن تشتتنا عن حاضرنا، لا يجب أن تكون مهربًا أو مدعاة قلق. فهذه مفارقة الوجود: نعيش بشكل مناسب توجهنا نحو المستقبل عندما نعرف أن نعيش الحاضر. إذا كان المستقبل البُعد الذي يجعل الحاضر ممكنًا، فعيش الحاضر هو الوسيلة الوحيدة للغوص بشكل مناسب في المستقبل.

هذا وإن إحدى أمراض عصرنا هو عدم عيش الحاضر، بل العيش في أزمنة أخرى. وقد كتب بليز باسكال سطورًا مؤثرة في هذا الصدد:

“لا نلتزم قط بالحاضر: نستبق دومًا المستقبل، كما وكأنه يتأخر في الوصول، كما وكأننا نريد أن نسرع وصولَه؛ نذكر الماضي لكي نتمسك به وكأنه سريع المرور وسريع التبخّر: نحن من الغباوة بمقام إذ نسافر في أزمنة ليست لنا متناسين الزمن الوحيد الذي هو خاصتنا. ونحن فارغين لدرجة أننا نفكر بأزمنة هي لا شيء ونتناسى الزمن الوحيد الموجود حقًا… لا نفكر أبدًا بالحاضر، وإذا فعلنا ذلك، فإنما نفعله لكي نحصل على نور نستعمله في المستقبل. الحاضر ليس أبدًا هدفنا، بل المستقبل. ولذا لا نعيش أبدًا، بل نأمل أن نعيش، وبما أننا نستعد دومًا لنكون سعداء، فمن الطبيعي أننا لسنا سعداء أبدًا”[1].

يقدم لنا الإيمان المسيحي درس حكمة في مجال عيش الحاضر. ولعل أشهر تعليم في هذا الشأن يأتي من كلمات يسوع: “لا تهتموا للغد، فالغد يهتم لأمره. يكفي كل يوم شره” (مت 6، 34). ويعلّم آباء الصحراء حكمة الحاضر – التي سبق وعلمها سفر ابن سيراخ (7، 36) بالدعوة إلى عيش كل يوم وكأنه اليوم الأخير: “إذا ما استيقظت في الصبح، قل لنفسك: ’لن أصل إلى الغروب‘، وإذا ما اضجعت فردد لنفسك: ’لن أرى شروق الشمس‘”.

ما معنى هذه المقاربة التي تبدو غريبة جدًا بالنسبة لنا، نحن أبناء عصر غيّب كليًا فكرة الموت؟ – موقف آباء الصحراء ليس موقفًا مريضًا يترقب الموت في كل لحظة، بل هي إعداد واستعداد ثابت لعيش نعمة الزمن الحاضر. فوهمنا الأكبر هو أن لدينا دومًا متسع من الوقت. هذا غير صحيح. الحياة قصيرة ولو مهما طالت، لأنها ليست أبدية. ولكمّ من المسنين الذين ينظرون بندم قارص إلى حياتهم مفكرين بكمّ من الأشياء التي أرادوا عيشها ولكنهم أرجأوها لزمن لاحق، لغدٍ لم يأت أبدًا. وعليه فـ “تذكار الموت” (memento mori) هو بالحقيقة “تذكار العيش” (memento vivere). هو تذكار لكي لا نرجئ للغد الخير الذي يجب أن نفعله اليوم. هو تحريض يقول لي: عش حياتك لا الغد بل اليوم، وبالتحديد الآن!

 


[1] B. Pascal, Pensieri 172.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير