بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الأربعاء 12 نوفمبر 2008 (Zenit.org). – “الدين هو أفيون الشعب”. كلمات شهيرة يعرفها حتى من لم يتصفح يومًا كتابًا من كتب الفيلسوف الألماني ومنظر الشيوعية كارل ماركس. ولعل ما يعتقده الكثيرون بشأن المسيحية هو هذا: هرب إلى الحياة الآخرة خوفًا من مواجهة وقر الحياة الحاضرة. وما يثبت قناعة هؤلاء الأشخاص هو تصرف بعض المسيحيين وكلامهم – وفي هذه الفئة نجد وفرة من الوعاظ أيضًا.
إلا أن المسيحية الحقة، وإنجيل يسوع المسيح لم يكن يومًا هربًا من الواقع. ومن فهم تعاليم يسوع – كالقديس بولس – لم يتردد منذ فجر المسيحية أن يحذر من استغلال السماء لتناسي الأرض. فالموقف المسيحي الحق هو ‘محبة الأرض، والقلب في السماء‘ كما قال بشكل جميل أنجلو رونكالي (البابا يوحنا الثالث والعشرون).
في تعليم هذا الأربعاء توقف الأب الأقدس للكلام عن الاسكاتولوجيا البولسية، وتطرق للموضوع الذي طرحناه أعلاه في استعراضه لتعليم الرسول في الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي على الترابط الوثيق بين انتظار الرب والعمل على تغيير وجه العالم.
فبعد الحديث عن مضايق الزمن الأخير وظهور المسيح الدجال يذكر الرسول المؤمنين: “لما كنا عندكم، كنا نوصيكم هذه الوصية: إذا كان أحد لا يريد أن يعمل فلا يأكل. وقد بلغنا أن بينكم قوما يسيرون سيرة باطلة ولا شغل لهم سوى أنهم بكل شيء متشاغلون. فهؤلاء نوصيهم ونناشدهم الرب يسوع المسيح أن يعملوا بهدوء ويأكلوا من خبزهم”.
علق البابا على كلمات الرسول ذات التحريض العملي: “لا يغنينا انتظار مجيء يسوع عن الالتزام بهذا العالم، بل على العكس، فهو يحملنا مسؤولية أمام القاضي الإلهي بشأن تصرفنا في هذا العالم. بهذا الشكل تنمي مسؤوليتنا على العمل في هذا العالم ومن أجله. سنرى الأمر نفسه في إنجيل الأحد المقبل، حيث يقول لنا الرب أنه أعطى وزنات للجميع، وأن القاضي سيطلب حسابًا عنها قائلاً: هل أتيتم بثمر؟ وبالتالي فإن انتظار المجيء يعني المسؤولية تجاه هذا العالم”.
الترابط بين مجيء الرب والتزام المسيحي الزمني
وتابع بندكتس السادس عشر مستشهدًا برسالة بولس إلى أهل أفسس حيث الترابط نفسه بين مجيء القاضيالمخلص والتزامنا في العالم. فبولس يكتب هذه الرسالة وهو في السجن وينتظر الحكم الذي يمكن أن يكون حكمًا بالموت. في هذه الحالة يفكر بولس بكينونته المستقبلية مع الرب، ولكنه يفكر أيضًا بجماعة فيليبي التي تحتاج إلى أبيها، إلى بولس، ويكتب: ” الحياة عندي هي المسيح، والموت ربح. ولكن، إذا كانت حياة الجسد تمكنني من القيام بعمل مثمر، فإني لا أدري ما أختار وأنا في نزاع بين أمرين: فلي رغبة في الرحيل لأكون مع المسيح وهذا هو الأفضل جدا جدا، غير أن بقائي في الجسد أشد ضرورة لكم. وأنا عالم علم اليقين بأني سأبقى وسأواصل مساعدتي لكم جميعا لأجل تقدمكم وفرح إيمانكم، فيزداد افتخاركم بي في المسيح يسوع لحضوري بينكم مرة ثانية” (1، 21 – 26).
ثلاثة مواقف مسيحية مناسبة
ولكن ما هي عمليًا المواقف الأساسية التي يجب أن يعيشها المسيحي نحو الأمور الأخيرية: الموت، ونهاية العالم؟
يعرض الأب الأقدس، انطلاقًا من اللاهوت البولسي 3 مواقف أساسية:
الأول هو اليقين بأن يسوع قد قام، وهو مع الآب، وبهذا الشكل هو معنا إلى الأبد. وما من أحد أقوى من المسيح، لأنه مع الآب ولأنه معنا. لهذا نحن بأمان وقد أعتقنا من الخوف.
الثاني هو اليقين بأن المسيح هو معي. وبما أن العالم المستقبلي قد بدأ مع المسيح، فهذا الأمر ينفحنا بثقة الرجاء. المستقبل ليس ظلمة حالكة لا يعرف فيها أحد الوجهة الصحيحة.
والثالث هو: المسؤولية تجاه العالم، وتجاه الإخوة أمام المسيح، وفي الوقت عينه يقين رحمته. والأمران مهمان على حد سواء. فنحن لا نعيش كما لو أن الخير والشر هما سيان لأن الله هو رحيم فقط. هذا الأمر هو خداع. بالحقيقة، نحن نعيش مسؤولية كبيرة. لدينا وزنات، ونحن موكلون بالعمل لكي ما ينفتح العالم على المسيح، ولكي يتجدد.
الشوق إلى مجيء الرب
وفي الختام تحدث البابا عن بعد عميق في الاسكاتولوجيا البولسية، وهو بعد التشوق إلى مجيء المسيح المتمثل بالصلاة الملحة: مارانا تا! تعال يا رب. واعترف البابا أن المسيحي المعاصر يجد صعوبة، للأسف، أن يتخلى عن هذا العالم. ولكنه مع ذلك يستطيع أن يصلي من أجل عالم متجدد. وأنى للعالم أن يتجدد ما لم يأت الرب يسوع؟ أنى للحضارة أن تضحي حضارة المحبة إذا لم تتشرب تعاليم المسيح وإذا لم تضح مكان حضوره وفعل روحه؟ ولذا أوضح الأب الأقدس أننا نستطيع أن نصلي صلاة المسيحيين الأول والتي تختم أيضًا سفر الرؤيا: تعال أيها الرب يسوع.
وختم بندكتس السادس عشر تعليمه بهذه الصلاة: “تعال، يا رب! تعال بالطريقة التي تريد أنت، وبالأشكال التي تعرفها أنت. تعال حيث هناك ظلم وعنف. تعال في مخيمات اللاجئين في دارفور، في شمال كيفو، وفي مناطق كثيرة من العالم. تعال حيث تسيطر المخدرات. تعال أيضًا بين أولئك الأغنياء الذين نسوك، والذين يعيشون لذواتهم فقط. تعال حيث أنت مجهول. تعال على طريقتك وجدد عالم اليوم. تعال أيضًا إلى قلوبنا، تعال وجدد حياتنا، تعال إلى قلبنا لكي نستطيع نحن بدورنا أن نضحي نور الله، حضورك أنت”.