دبلن، الثلاثاء 11 مايو 2010 (Zenit.org). – في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الأخير، كشفت قضية مورفي عن قيام عددٍ من الأساقفة الأيرلنديين بالتّغطية على اعتداءاتٍ جنسيَّة على الأطفال، ارتكبها كهنة خلال ما يزيد على ثلاثين سنة. وفي هذا السِّياق قام الأب تيموثي رادكليف، الكاهن الدومينيكاني الإنكليزي، والرَّئيس العام السابق لرهبنة الوعّاظ، بإلقاء هذه المحاضرة في نهاية العام 2009 على كهنة أبرشية دبلن (أيرلندة)، بغية مساعدتهم في تأملهم في كيفية مجابهة هذا الوضع المؤلم للغاية.
* * *
“تعالَوا إليَّ يا جميع المتعبين” (متى 11، 28)
إنَّه لشرفٌ وامتيازٌ كبيرين لي، أن أكون وسطكم هذه الأيام. لقد سُرِرتُ بأن أتيحت لي فرصة إحياء رياضةٍ روحيّةٍ لكهنة هذه الأسقفيّة منذ سنتين تقريباً، ويسعدني أن أكون معكم من جديد. إنّها لفترةٌ في غاية الصّعوبة بالنّسبة للكنيسة، في إنكلترة وفي أيرلندة، ولكن خصوصاً بالنسبة لكم حالياً.
إنَّ موضوع هذه الأيام هو: “ابتعدوا وارتاحوا قليلاً”. لذلك فقد قلتُ لنفسي، بأنّي سأتأمّل معكم في نصِّ متّى الذي يستحضر الراحة بشكلٍ كبير: ” تعالَوا إليّ يا جميع المتعبين والرّازحين تحت أثقالكم، وأنا أريحكم. احملوا نيري وتتلمذوا لي، فأنا وديعٌ متواضِع القلب، تجدوا الراحة لنفوسكم، لأن نيري لطيف وحِملي خفيف”. لذا فإنّي آمل بأنْ يحصل حوارٌ مريح، وإذا ما أغفيتم فتجنَّبوا الشَّخير!
قال يسوع لتلاميذه: “تعالَوا إليّ”. إنّها دعوةٌ إلى الحميميّة. التلاميذ مدعوون إلى إيجاد الرّاحة في صداقته. هذه هي النقطة التي أودّ تفحُّصَها قليلاً، الطّريقة التي تمكننا، في هذه الفترة الصعبة، من إيجاد الرّاحة في صداقةِ الله.
تجتاز الكنيسة أزمةً فظيعة، ليس في أيرلندة فقط، وإنَّما كذلك في بريطانيا العظمى، في أمريكا وأستراليا. إلا أنّي مقتنع، في هذه الأثناء، كما سبق وقلت في سياق هذه الرياضة، بأنّه ومن خلال الأزمات يمكننا الاقتراب من الله. لقد كانت اللّحظاتِ الأسوأ على الإطلاق التي عرفها شعب إسرائيل، هي تلك التي تسبَّبت في دمار الهيكل في القرن السادس ق.م، في خلع المُلكية والسبيّ إلى بابل. لقد فقد إسرائيل حينها كلّ مكوِّنات هويَّته: مكان عبادته، وضعيته كأمّة وعاهله. إلا أنّه اكتشف بأنّ الله لم يكن يوماً قريباً منه كما كان وقتها. لقد كان الله حاضراً في الشّريعة، في قلوب وأفواه السكّان حيثما وجدوا، حتّى بعيداً عن أورشليم. لقد أنشدنا يوم الاثنين في صلاة فرض السّاعة السّادسة، وفيما كنتُ أعدُّ هذا النَّص: “أستنيرُ يا ربُّ بوصاياك، فهي التي أُحبّ. أرفع كفَيَّ حبّاً بوصاياك وأتأمَّل في إرشاداتك” (مز 119: 47-48). لم يفقد إسرائيل الله، إلا ليتلَّقاه أقرب مما سبق له أبداً تصوُّرَه.
ويسوع، هذا الرَّجل المذهل، الّذي ظهر، على صدامٍ مع هذه الشريعة المحبوبة، يأكل يوم السَّبت، يلمس البُرص ويصادق الزواني، بدا كما لو كان يحاول تدمير كلّ ما يتعلَّق به الشَّعبُ، طَّريقة حضور الله في حياتهم. إلا أنّ ذلك كان، لأنّ الله أراد أن يكونَ حاضراً بطريقةٍ أكثر حميميّة، كواحدٍ منّا، بوجهٍ إنسانيّ. وفي كلّ إفخارستيا، فإننا نتذكّرُ الطّريقة التي سوف نفقده بها. ولكن، مرَّةً أُخرى، لنستقبله بشكلٍ أكثرَ قُرباً، ليس كرجلٍ فيما بيننا وإنّما كحياتنا ذاتها.
تُشكِّل الأزمة الأخيرة في الواقع، فرصةً لاكتشاف يسوعَ أكثرَ قُرباً إلينا مما سبق لنا تصَوُّره على الإطلاق. هذا الوضعُ ناجمٌ عن إخفاقاتنا ككنيسة، إلا أنَّ الله يمكن أن يجعل منه شيئاً جيداً، إنْ عشناهُ بالإيمان. ويمكننا مذ إذٍ أن نكون مطمئنّين. في أحدِ الأيَّام وفيما كنتُ أثرثر كعادتي حول هذا الموضوع، قدَّم لي أحدُ إخوتي الأمريكيّين، قميصاً صنعه خصيصاً لي، يحملُ العبارة التَّالية: “ما من شيءٍ يعادل أزمةً جيّدة!” كنتُ أنوي جلبه لأريكم إيّاه، إلا أنّه ضاق بشكلٍ كبيرٍ بحيث لم يعد بإمكاني ارتداءه.
ثقل أحمالنا
حينما كنتُ طالباً دومينيكيّاً شاباً في بلاكفراير – Blackfriarفي أوكسفورد، استُهدِفَ الدّير من مجموعةٍ من نشطاء اليمين الذين لم يتقبّلوا التزامنا بقضايا تتجه نحو اليسار. أطلق أولئك الأشخاص، في مناسبتين اثنتين، وفي قلب الليل، متفجِّرةً صغيرة أحدثت ضجيجاً هائلاً وحطَّمت النوافذ. أيقظت التفجيرات كافة أعضاء الجماعة، فيما عدا رئيس الدَّير. اكتشفتُ بذهولٍ ما كان زملائي يرتدونه من أجل النوم! بيجامات، ألبسة داخلية، لا شيء على الإطلاق! أقبَلت الشرطة ورجال المطافئ. بحيث ذهبت في النهاية لإيقاظ الرّئيس: “فيرجوس، لقد تمَّت مهاجمة الدير، استيقظ”. “أيوجد قتلى؟”. “لا”. “جرحى؟”. “لا”. “دعني أنام إذن، وسنرى ذلك في الصباح”. لقد كان ذلك درسي الأول في مقرّر معنى السلطة! لقد حمل المسيح النصر. لذا يمكننا أن نكون مطمئنِّين مهما حصل.
السؤال الذي يطرح نفسه علينا اليوم إذاً، هو: كيف يمكننا عيش هذه الأزمة كفرصةٍ للخير والتجديد؟ لنتابع التأمُّل في كلمات يسوع، علَّنا نرى ما ستوحي به إلينا: “”تعالَوا إليَّ يا جميع المتعبين والرّازحين تحت أثقالكم وأنا أريحكم”.
لا بدَّ أن أغلبكم قد شعر في الأسابيع الأخيرة، بالانهيار تحت ثِقَلِ أحماله. لقد شعرتم بالإنهاك تحت ثقل فضيحة الاعتداءات الجنسيّة، وعدم كفاءة عددٍ من الأساقفة في التعاطي مع هذه القضية خلال عقود. قد تكونوا قد شعرتم بالانسحاق تحت وطأة غضب وسائل الإعلام وبعض أبناء رعاياك
م أو ما هو أسوأ، تحت وطأة شهاداتِهم المفعمة بخيبة الأمل، التعاسة والتعاطف. في هذه الأثناء، وفي كلِّ مرّةٍ ألقي محاضرة في إنكلترة، فإنّني أخرج منهكاً من هذا الغضب تجاه الكنيسة.
كيف يمكننا تقديم هذا للرّب لكي يخفِّف الحمل عن أكتافنا؟ حسناً، إنّه يقول: “تعالَوا إليّ يا جميع المتعبين والرّازحين تحت أثقالكم”. يا جميع المتعبين: هذا يعني أن نأتي إليه كلّنا سويَّةً، مع كلّ الرازحين تحت ثقل أحمالهم. يتوجَّب علينا أن نذهب إليه مع أولئك الذين يحملون أثقل أنواع الأحمال، ضحايا الاعتداءات الجنسية. إن كنّا نريد الاقتراب من يسوع، فإنه يتوجَّب علينا إذاً مساعدتهم على حمل أثقالهم. يبدو هذا العمل وكأنَّه يضيف حملاً جديداً إلينا، إلا أنّه سيسمح لنا بالتأكيد، أن نخفِّف بالمقابل، بعض الثقل عن أكتافنا.
أعترف بأنَّني خائفٌ من المُضيّ في هذه المسيرة. أخاف من غضب وألم أولئك الّذين عانَوا من سوء معاملتنا. عندما أسمعهم يعبِّرون عن ذلك في الراديو أو التلفاز، فإنّني بالكاد أتمكّن من تحمُّل ذلك. أودّ إغلاق الراديو أو التلفاز. إلا أنّ صداقة الله تتطلَّب منّا التقدُّم، شئنا ذلك أم أبينا، في حمل أثقالهم، وغضبهم ومعاناتهم أيضاً. وكذلك خيبة أمل وكُرب شعب الله. لا بل، حتّى الأحمال الثقيلة لإخوتنا الكهنة الذين اعتدَوا على قُصّار. يتوجّب علينا مساعدتهم في حمل أثقالهم. إن حملنا أحمال كلّ هؤلاء، فسيريحنا الرّب.
قال يسوع لتلاميذه في إنجيل لوقا، وخلال العشاء الأخير: “أقول لكم: يجب أن تتمَّ فيّ هذه الآية: وأحصَوه مع المجرمين. وما جاء عنِّي لا بدَّ أن يتم” (22: 37).
إنْ كنَّا نودّ الارتياح في صداقة الله، فإننا سنُعدّ في عداد الخاطئين بالتّأكيد. حكت لي أختٌ دومينيكانيّة رائعة عن مشاركتها في اجتماعٍ عائليّ، شارك فيه عدّة مئاتٍ من الأشخاص. وكان هنالك شجرةُ عائلةٍ ضخمة، بحيث وُضِع أسفلَ كلّ اسمٍ لائحةٌ بالمتحدّرين منه. فيما وُضِعَ تحت اسم الراهبة وكذلك تحت اسمِ كاهنٍ قريبٍ لها علامة استفهام. كأنّما أرادوا القول: “حسناً، لسنا على علمٍ بما قمتم به”. طلب منّي ذات يومٍ الرّئيس الإقليميّ المحليّ في نيويورك، أن أقابل رجلاً أكَّد تعرّضه لسوء معاملةٍ جنسيّة من قبل دومينيكانيٍّ متوفٍّ منذ أمدٍ طويل. لقد كانت السّاعة التي أمضيتها مع هذا الرجل وزوجته مؤلمةً للغاية. كان باختصارٍ، يصرخ قائلاً: “أنت من فعل لي ذلك”. كنّا في السنّ ذاته تقريباً. ولم يكن قد سبق لي وسمعتُ بالدّومينيكان ساعة تعرّض للاعتداء. كنتُ أرغبُ في الصراخ: “لكن لا علاقة لي بذلك!”. وإنّه لمن المغري حقاً، اللجوء إلى حقائق مطمئنة، كتلك الدراسات على سبيل المثال في أمريكا وإنكلترة، والتي تكشف عن وجود ميلٍ أكبر في الواقع لدى رجال الدّين الآخرين للجنوح إلى هذا النوع من الجرائم، منه لدى الكهنة الكاثوليك، رغم أنّنا نحن من ينظّف كلّ النَّقد.
(يتبع)
نقلها إلى العربية المبتدئ اليسوعي فادي حليسو