روما، الثلاثاء 7 سبتمبر 2010 (Zenit.org). – لا تزعم بأننا سنقدم الحل لمشكلة العلاقة بين العلوم والإيمان، ولكن لا يسعنا إلا أن نقول كلمة بشأن مجال بحث كل من العلوم. إن إدعاء علماء الفيزياء أو البيولوجيا بأن تقدم من خلال نتائج حقلها العلمي خلاصات تنطبق على حقول أخرى هو خطأ يشابه من يريد أن يقرأ الموسيقى الموجودة على القرص المضغوط (compact disc) مستعملاً قارئ الأقراص الموسيقية القديمة المعروف بالفونوغراف. إن إبرة الفونوغراف لا تصلح لقراءة الأقراص المضغوطة، وبشكل مماثل أدوات ووسائل العلوم المخبرية لا تصلح للحصول على نتائج في حقل الإلهيات.
هذا وإن تحليلات هوكينغ، رغم إبداعها الفيزيائية، حالما تتطرق إلى مواضيع تخرج عن إطار تخصصه نراه مبنية على سفطائية في حقل المنطق. نقدم مثالاً سفطائيًا لتوضيح ما نريد أن نقوله. أحد الأمثلة السفسطائية الكلاسيكية هو:
كل إنسان فانٍ
كل حصان فانٍ
إذًا كل إنسان حصان.
لمن يُلمّ ولو قليلًا بعلم المنطق يعرف أن هذا التركيب لا ينخرط في إطار المقولة المنطقية (syllogism) المشروعة. ففي هيكلتها البسيطة يجب على المقولة المنطقية المبدأية أن تكون مركبة بهذا الشكل:
يجب على العنصر “أ” أن يكون مستخلصًا بكليته من العنصر “ب”، وعلى العنصر “ب” أن يكون بدوره قابلاً للاستخلاص بكليته من العنصر “ج”، الأمر الذي يجعل بالضرورة العنصر “أ” قابل للاستخلاص من العنصر “ج”.
المثال على تركيب مقولة منطقية صحيحة هو التالي:
أرسطو إنسان
كل إنسان يموت
إذًا أرسطو يموت
إذا ما حولنا أن ننظر إلى أطروحة هوكينغ التي تزعم المنطقية نراه يقول:
الله ضروري لكي نشرح وجود الكون (هذه هي أطروحة هوكينغ الأولى في كتابه السابق)
يمكننا أن نشرح الكون بمعزل عن الله (هذه أطروحة هوكينغ في كتابه الجديد)
إذًا الله غير موجود.
التناقض المنطقي جلي وواضح، ولن نتوقف على تحليله، فما من ترابط بين الأطروحة الأولى والأطروحة الثانية، إنهما تصريحان مختلفان لا يساعدان على تقديم تضمين (inclusion) يساعدنا على استنتاج خلاصات ثالثة. ببساطة تصريح هوكينغ لا يتبع التركيبة المنطقية ولا يمكن استخلاص النتيجة الأخيرة من دمج الكبرى والصغرى، وذلك لأن التركيبة بحد ذاتها ناقصة.
أما ما نريد التوقف عليه الآن ضيق نظر هذه الأطروحات.
أولاً: “الله ضروري لكي نشرح وجود الكون”. هذه الأطروحة هي آفة الكثير من العلوم انطلاقًا من ديكارت. هذا خطأ! الله ليس ضروري لشرح الكون. الله أخلى ذاته خالقًا الكون حرًا، ودراما البشرية هو هذا: أن الله ليس جزءًا من المعادلة الكونية والدنيوية لكي نستخلصه من الأشياء. المسيرة نحو معرفة الله لا تمر بالضرورة في الإطار الكوني. ومع أن “السماوات تنطق بمجد الله والجلد يخبر بعمل يديه” (مز 18) إلا أن إلهنا يبقى إلهًا خفيًا ومتساميًا (أش 45، 15) لا يقبل أن يدخل في معادلاتنا الحسابية. إن المبدأ الذي كان يعتنقه هوكينغ في كتابه السابق هو مبدأ يعرف باللاتينية بـ “deus ex machina” الذي يمكننا أن نشرحه بهذا الشكل: الله ضروري لنفهم الوجود. هذا المبدأ ينكر البعد الشخصاني والعلائقي لله ويحده في إطار حاجتنا البشرية للتفسير. استعمله ديكارت ليجلو شكه حول وجوده، وجود النفس ووجود العالم المادي فأضحى الله بالنسبة له وسيلة لا غاية، آلة لا شخصًا. استعمال الله بهذا الشكل قد لا ينافي المنطق ولكنه بكل تأكيد ينفي العلاقة وأناقة الوجود: كما ولو ربطنا وجود آبائنا بحاجتنا إلى الإرث وإلى تعليل وجودنا. تفكير محدود ويخرج من إطار العلاقة الشخصانية التي يجب أن تربطنا بالله (وبكل إنسان!).
أما الوحي فيكشف لنا عن إله أفرغ ذاته عندما خلق (وليس فقط عندما تجسد يسوع!) مفسحًا المجال للخليقة لكي تكون، ولكي تكون مختلفة عن الله. يشرح المتصوفون هذا الواقع بصور تبين الفكرة: بما أن الله هو كل شيء وهو الموجود الوحيد من الأزل، عندما خلق أفرغ جزءًا من وجوده من ذاته لكي يفسح للكون المجال بالوجود وللإنسان بالمجال لكي يكون حرًا ويجب بحرية على الدعوة إلى الحب. هذه الصورة البسيطة لا تشرح سر الخلق ولكنها تفتح لنا طاقة صغيرة على الفهم.
وعليه، فالله ليس ضروريًا لفهم الكون، لأنه شاء أن يكون الكون كواقع مستقل. أجل، الله يحفظ الكون في الوجود ولكنه – أعتذر على السخرية – لا ينشر إنجازاته في كل الصحف. عمل الله خفي وهو التواضع الحقيقي. هذا التواضع الذي تجلى في اتضاع يسوع المسيح وحياته الخفية كان شكًا على مدى التاريخ، شكك أيضًا معاصري يسوع، ولكنه بالحقيقة عظمة الله. فيسوع، عندما يدعو إلى الاقتداء به – هو “صورة الله غير المنظور” – لم يقل اقتدوا بعظمتي، بل “تعلموا مني أني وديع ومتواضع القلب” (مت 11، 29). تواضع الله هو إشعاع عظمته، الله أكبر لأنه وحده رغم كبره يعرف كيف يتواضع حقًا، يتواضع ليفسح مجالاً للخليقة لأن تكون. يتواضع لكي يكون الكون حقًا، ولا يكون مجرد تمثيلية دمى يحركها جبار متشامخ. الله عظيم لأنه خلق كونًا يستطيع أن يقوم بذاته، وبما أنه يستطيع أن يقوم بذاته يستطيع أن يقول لا. وبما أنه يستطيع أن يقول “لا” تأخذ كلمة “نعم” كامل معناها. الكون – في الإنسان – يستطيع أن يقول نعم بحق وحقيق لدعوة الله للولوج في سر المحبة.
(يتبع)