"ها أنا معكم كل الأيام الى منتهي الدهر"

 

في هذه العبارة أنهى الانجيلي متى انجيله. وهذه العبارة أوردها الانجيلي عن السيد المسيح، يوم ودع تلاميذه الوداع الأخير قبل عوده الى الله أبيه السماوي. وأكد لهم، مرة أخيرة، أن الله أباه أعطاه كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فقال لهم، وهو يودعهم، "لقد أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض"، وحملهم رسالة وطلب اليهم القيام بها، وهي: "اذهبوا فتلمذوا كل الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به". ووعدهم بأنه باق معهم طول الأيام وعلى مدى الدهر.

في هذا القول، ما يجب أن يشجع المؤمنين، ليقينهم بأن الله لا يتركهم يتخبطون وحدهم في ضيقاتهم، فهو معهم لينجدهم ويجتاز بهم المضايق الى مكان الطمأنينة والراحة، سواء أكان في هذه الدنيا أم في الآخرة. فعلينا أن نجدد ايماننا بالله. فهو ملجأنا في حال الشدة.


وننتقل الى الحديث عن حرية الاختيار والاجهاض، فنرى أن حرية الانسان ليست، كما يتوهم بعضهم أنها لا تعرف الحدود. انها حرية تقف حيث تبدأ حرية الآخر، على ما قيل. وبخاصة في ما خص شؤون الحياة التي جعل الله الانسان وكيلا عليها، ولا بد يوما من أن يطالبه بالحساب عن هذه الحرية، وعن أعماله التي أتاها عن ارادة حرة ومعرفة تامة.

 
1-الاختيار الحر
هناك نظرية تعرف بالاختيار الحر، نشأت في الستينات من القرن الفائت، وتشجع على الاجهاض. وقامت، بين السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، بخطوة مهمة، فأشاعات ان الولد قبل الولادة ليس بشخص، وبالتالي ليس بكائن بشري. ولكن هذه الفكرة لا تثبت أمام المعطيات العلمية. والذين يروجون للاجهاض يقومون بذلك باسم الحرية، والحقيقة، والاختيار الأدبي الحر، والحب. وكل ذلك بغية البحث عن اللذة دون تحمل الأعباء الناتجة عنها، وهي خدمة الحياة. وهذا الموقف يسيء الى العلاقة التي يجب أن تقوم بين الولد والأم، وهي علاقة ذات قيمة لا بديل عنها. وهذا يفضي الى ثقافة الموت.

 
وهذه النظرية يسعى أصحابها الى تشريع الاجهاض، ولها نتائج وخيمة لأنها تجبر على القيام بصراع مميت دفاعا عن الحياة والقلوب والافكار. ووسائل الاعلام تقوم بحملات مغرضة تنشر أفكارا تسيء الى الحياة، وتهدم لدى عامة الناس التفكير السليم في شأنها. وقد بدأت هذه الحملة في الولايات المتحدة في الربع الأخير من القرن الفائت، فسعت الى تشريع الاجهاض وأنشأت جمعيات تنادي بهذه الأفكار. وبعد أن شرعت المحكمة العليا الاجهاض، جانبت أن تسميه باسمه. فأطلق عليه أسم هو "من أجل الاختيار".
 

وقد وصف نيافة الكردينال تروخييو هذا التلاعب الثقافي بقوله: "عملية الغاء الضعيف تظهر كممارسة للحرية نبيلة وشهمة، وكانجاز حضاري، خاصة بالنسبة الى النساء. كل هذا يتم اخفاؤه في معادلة "تأييد الاجهاض". وهذه النظرية، نظرية الموت، لا تقبل وحسب، بل انها تفرض نفسها، ويتم تصديرها وتحويلها الى "نقاش استبدادي يدمر كل ما قبله". وتواصل الحركة التي تؤيد الاجهاض، بمعاونة وسائل الاعلام وصناعة الأدوية، التنديد بمناوئيها بعبارات سلبية مثل "مناهضة الاجهاض" أو "من أجل الحياة". ولو كانت الصفات التي يستعملونها تقوم على أساس راسخ، لكانوا أطلقوا عبارة "من أجل الحياة" على الجماعات التي تناوئهم. ولكانوا سموا حركتهم "من أجل خيار مشروع لقتل أو عدم قتل كائنات بشرية بريئة"، وحركة أخصامهم "من أجل الخيار"، لكن ليس بمعنى خيار لا حدود له.

 
2-قلب المفاهيم
وهذا التشويه اللفظي للواقع وصم دائما الحركة الداعية الى الاجهاض. وهكذا أصبح مركز الاجهاض، "مركز صحة للانجاب"، "وجمعية مساعدة الأهلين"، أو "مركز تخطيط عائلي". وأصبح المولود المنتظر "شيئا"، أو "نتاج الحمل" وأصبح قتل الجنين "عملا طبيا" أو "عملية جراحية". وقتل الطفل المنتظر يصبح مسموحا به. وهذه كلها تجاوزات غير أخلاقية وغير مقبولة، لا بل اجرامية.

 
والذين ينادون بالاجهاض يقولون انه خير أن يتم ذلك بطريقة شرعية آمنة، من أن يتم بالخفاء. وهذا ما أحدث في الولايات المتحدة وحدها من خمسة آلاف الى عشرة آلاف وفاة في السنة. وكان الهم الأكبر الغاء القوانين وكل ما كان ضمن اطار المنطق. وقد ارتفع عدد الوفيات سنة 1972 الى ما يقارب الأربعين الفا.

 
وقد بذل مؤيدو الاجهاض ما في وسعهم لألغاء القوانين التي تنهى عن الاجهاض، لأنه عمل منكر يهين الله والانسان، لأنه في الواقع فعل قتل. وقد أشار البابا يوحنا بولس الثاني الى هذا الأمر في قوله: "كانت هناك خيارات تعتبر سابقا مجرمة يرفضها الأدب العام، لقد أصبحت شيئا فشيئا مقبولة". ويمكننا أن نضيف أن الاجهاض في مجتمعنا المعاصر أصبح ينظر اليه على أنه عملية جراحية بسيطة يجريها أطباء محترمون في عياداتهم ومستشفياتهم.

 
3- مفهوم الحرية الخاطئ
وهناك مفهوم خاطئ للحرية، وهو يمجد الفرد، ولا يهيئه الى التضامن، والقبول دون تحفظ بخدمة القريب. والحرية هي في الواقع خير مطلق دون حدود وغير محدود. وهذا شأن العدالة والحقيقة والصلاح. وهناك خيور محدودة كالثروة، والسلطة، والطعام والشراب. وبعد انطلاقة الثورة الفرنسية، أصبح الكثيرون يسعون وراء الحقيقة كخيرهم الأكبر، وغير المحدود. وهناك من يربط الحرية بالعدالة، معتبرين أنه علينا أن نحصل على الكمية الكافية من الحرية التي نستطيع ممارستها بحق. وما من رجل سليم العقل لا يفهم أن الحرية لا تكون بأن يسرق الانسان أو يختلس رزق الغير. و هناك حدود للحرية واضحة ومشروعة. وفي ظل كل نظام حر، غير استبدادي وظالم، يظل المواطنون أحرارا في خياراتهم، ما عدا اذا كانت هذه الخيارات تتعدى على حقوق الغير.

 
فكيف يمكن أن تكون هناك حرية شرعية للقيام بعملية اجهاض؟ ان انصار الاجهاض في ما بين السبعينات والثمانينات حاولوا حل هذه المشكلة، التي لا حل لها، بسعيهم الى تحسين صورتهم، فرفضوا القول بأن الأم تقتل أولادها، لأن الجنين ليس بولد، وفي التالي ليس بحي، ولا هو شخص جديد، ولا هو عضو في الجنس البشري. وهذه كلها أقوال لا أساس لها من الصحة.

 
والجنين هو شخص بشري جديد، تشهد على ذلك نبضات قلبه، وموجات دماغه، وبصمات اصابعه، وما يجري في عروقه من دماء، فضلا عن جهازه العصبي. وهذه حقيقة راهنة، وهي أنه عضو في الجنس البشري. وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة، فان أنصار الاجهاض تابعوا القول: ان الاجهاض ليس بجرم وقد برروه بقولهم انه قتل شرعي يتم باسم الحرية، حرية الأم البريئة تجاه حياة ابنها المعتدي عليها، وهذه أقوال يراد بها تبرير الجريمة التي ترتكب في حق الأبرياء. وان ممارسة الحرية، التي لا حد لها، لا يمكنها أن تجعل من الانسان سيد الحياة والموت. والله وحده هو سيد الحياة والموت. فهو الذي يحيي ويميت، على ما جاء في سفر تثنية الاشتراع: "انني أنا هو، ولا اله معي، أنا أميت وأحيي، وأجرح وأشفي، وليس من ينقذ من يدي". وعندما أعطت السلطة الناس حق السيادة على حياة الأبرياء وموتهم، ارتكبوا أفظع مجزرة في التاريخ. وهي مجزرة تقدر ضحاياها بعشرة ملايين من النفوس البشرية كل سنة. وهذا كله يخالف بعض مبادئ مسيحية أساسية، والثقافة الغربية، والحكمة الأزلية.

 

الحياة البشرية هي أثمن ما جاد الله به على الانسان من هبات. وقد استنبط الكثيرون من أهل العلم والاختراعات، ممن وقفوا حياتهم على اطالة عمر الناس، الكثير من العقاقير التي تطيله في زعمهم. ولكننا نرى في المقابل ان هناك من يستهينون في هذه الحياة، فيدمرونها، دون أن يطرف لهم جفن، في الحروب، والنكبات التي تطرأ بين الحين والحين على هذه أو تلك من البلدان والمناطق.وهذا ما يحدث عندنا اليوم. وهذه المعارك، التي تدور رحاها حول المخيمات في نهر البارد، تزهق فيها الأرواح، وتهدم بيوت السكن، وتزيد في شقاء من يرافقهم هذا الشقاء منذ مولدهم. ولم يعرفوا كيف يتلافون ما حدث برفضهم الطارئين عليهم، والذين أخذوهم، زودا عن نفوسهم، رهائن بشرية.

 
ولا بد لنا هنا، مرة جديدة، من أن نحيي، تحية التقدير والاحترام، الجيش اللبناني للمجهود المضني الكبير الذي يبذله لانزال أقل خسائر ممكنة في الأرواح والممتلكات لدى من يشهرون في وجهه السلاح. وقد اسقط هؤلاء بين صفوفه ضحايا بريئة قد تفوق الخمسة والثلاثين شهيدا، ما عدا الجرحى، ومن بينهم من أخذوا على حين غرة، وهم في غير ساحة القتال. ومعلوم ان الحرب خدعة، على ما يقول المثل السائر، ولكن التنسيق واجب، في مثل هذه الحال، بين جميع القوى التي تأخذ على عاتقها الدفاع عن حياض الوطن، وتخوض المعارك في سبيله، وترتضي الموت ليحيا المواطنون حياة هانئة.

 
انا نسأل الله ان يلهم الجميع ما فيه خيرهم، ونصلي من أجل أن يعود لبنان الى سابق عهده من الطمأنينة والاستقرار والسلام".

كلمة البابا لمسؤولي وطلاب الأكاديمية الحبرية الكنسية

الفاتيكان، 3 يونيو 2007 (zenit.org). – عن إذاعة الفاتيكان – استقبل البابا صباح السبت في الفاتيكان أعضاء الأكاديمية الحبرية الكنسية، من مسؤولين وطلاب كهنة يتأهيون لخدمة الكرسي الرسولي الديبلوماسية، ووجه إليهم كلمة قال فيها إن الخدمة التي يستعدون إليها في روما هي خدمة شهودٍ أكفياء لدى الكنائس وسلطات البلدان التي سيُرسلون إليها، مؤكدا أن مَن يتعاون مع خليفة بطرس مدعوٌ لبذل كل ما بوسعه ليكون راعيا حقيقيا، مثل يسوعَ الراعي الصالح، ويبذلَ نفسه في سبيل خرافه