عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

بكركي، 17 يونيو 2007 (ZENIT.org). –  ننشر في ما يلي عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير التي ألقاها في قداس الاحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.

* * *

“لا يعرف أحد ما في الله الا روح الله” (1كور2: 12)

 

Share this Entry

“معرفة الله تتم في الايمان. وما من أحد، يقول بولس الرسول، يعرف ما في الانسان الا روح الانسان الذي فيه. وكذلك القول لا احد يعرف ما في الله الا روح الله. وروح الله وروح العالم على طرفي نقيض. ونحن يقول الرسول، لم نأخذ روح العالم، بل روح الله، وهذا يعرفنا ما أنعم الله به علينا من مواهب.
لنسأل الله أن يبقي معنا روحه لنعرف كيف نتدبر أمورنا في هذه الأيام الصعبة التي تمر بنا. ونتابع الحديث عن مضار الاجهاض، وهو فعل قتل، له عند الله حساب عسير.

1-صورة فريدة عن الطفل
ان يسوع المسيح قد تسامى على كل العطايا الممكنة، وكل المؤسسات الطبيعية والانسانية، بتأسيسه العائلة المسيحية، أو”الكنيسة البيتية” كما يسميها المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، والكنيسة الموحدة بوحدة الآب والابن والروح القدس، على ما يقول القديس قبريانوس. وقد نقل الينا يسوع المسيح عبرها نصيبنا من الحكمة الالهية، والحياة، والمحبة. وخلافا لذلك، ان الحركة المؤيدة للإجهاض تعيد الجماعات البشرية الى مستوى الأفراد الذين يعيشون عيشا طبيعيا ضيقا، وزمنيا، وسياسيا، واجتماعيا، وهو عيش يكتفي بالبحث عن اللذة الجنسية، بعيدا عن حياة العائلة، أو الحياة الدينية، في وجه خاص.
ويعطي الوحي اليهودي – المسيحي صورة فريدة عن الطفل. ان ردة فعل الأم الأولى أمام مولودها تشير الى الدور الالهي والانساني في عملية الخلق والايلاد: ” فكأنها تقول مع سفر التكوين: “اقتنيت رجلا من عند الرب”. هذه الحياة البشرية الجديدة هي اعجوبة مدهشة، وهذا الطفل هو من أحد أهم الهبات التي يعطيناها الله: “لأنك أنت كونت كليتي. نسجتني داخل بطن أمي. أحمدك لأنك صنعتني في اعجازك المدهش. ما اعجب أعمالك، ونفسي تعلم ذلك يقينا” .
وخلافا لهذه النظرة، ان مؤيدي حركة الاجهاض يعتبرون الولد كأنه عائق في وجه الاستقلال الذاتي، وطلب اللذة، والانصراف الى العمل. وأطلقوا اجراءات معادية للولد الذي سيولد. ومؤيدو الحركة من أجل الحياة، قاوموا كل افتئات على الحياة في ارتضائهم تضحيات كثيرة ثقيلة. وعلى الرغم من أن ردات الفعل هذه كانت ضرورية، كان يجب أن يخضع هذا الدفاع لمبادرة استراتجية ترمي الى الالتفاف حول الهدف الواحد، وهو بناء ثقافة حياة على احترام كل حياة بشرية، ومحبتها منذ الحبل بها حتى وفاتها الطبيعية.
2- جعل الله الانسان على صورته
ان الوحي اليهودي المسيحي يولي الحياة البشرية قيمة لا مثيل لها، وفائقة الطبيعة، فيما النظرية العلمانية ترمي الى تمجيد الانسان فترده الى القيام بوظيفة كائن أسمى في العالم الطبيعي. ان أول ما يؤكد سلطان الله على الكائن البشري قوله تعالى في كتاب سفر التكوين: “لنجعل الانسان على صورتنا ومثالنا”. وهذه أعمق ملاحظة صدرت في حق بشر، وأكبر مديح يكيله الله للانسان. وكان علينا أن ننتظر بزوغ القرن العشرين لنعرف معرفة أكيدة بدايات الحمل، وما يرافقه من تكوينات شخصية: وهي معلومات حية، جوهرية، وجودية، تفسح في المجال لنلم تمام الالمام في مجمل عملية التكوين البشري. ونحن منذ الحبل بنا، مخلوقون على مثال كلمة الله وصورته، الحي في امتياز الذي يعرف كل شيء، وهو كلي القدرة. وقد جاء في مستهل انجيل القديس يوحنا قوله: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وهو كائن في البدء، به كون كل شيء، ومن دونه لم يكون شيء مما كون. فيه كانت الحياة، والحياة هذه كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلام. والظلام لم يدرك النور”.
ان الأقانيم الثلاثة لم يخلقونا فقط على صورتهم ومثالهم، بل دعونا الى النمو الطبيعي والفائق الطبيعة، عبر مشاركتنا، بفضل فعل النعمة، في الطبيعة الالهية، في علاقات الأقانيم الثلاثة.
وعندما صار الله ابن الانسان في التجسد، وابنا لمريم البتول، وشبيها بالبشر في كل شيء، ما عدا الخطيئة، خلع على الناس أكبر شرف ممكن، وهو أنه دعاهم الى أن يكونوا أرواحا متجسدة على مثاله الخاص: لقد أظهر يسوع لنا وجه الله البشري، ووجه الانسان الالهي. وهو يدعونا لكي نصبح على مثاله، فنطور عالما كاملا من تجسدات الروح الطبيعية، وفوق الطبيعية. وهذه الأشكال من الفهم، والخلق، والحياة البطولية، والمحبة المضحية، والجمال غير المتناهي تستجيب لأعمق احتياجاتنا، وتقودنا الى أعلى درجة من الكمال: وهي أن نشارك الله الآب، والابن، والروح القدس شراكة شخصية وجماعية، وذلك عن طريق الايمان والرجاء والمحبة، وفي ما له من الحكمة، والحياة، ومحبة الله الآب، والابن، والروح القدس. وليس هناك أي تحد، وأية دعوة، وكرامة، وكمال، ورغبة،أو خيار أسمى من هذا كله.
3- خاتمة
ان الحركة المؤيدة للآجهاض هي نوع من الفلسفة الانسانية المدنية تستخدم التضليل، والتقنية، والضغط، والقانون، لتضمن الخيار غير المحدود للمحافظة أو للقضاء على حياة أناس، ابرياء، خاصة في بدء هذه الحياة أو نهايتها. والحال، اذا اتبعنا المسيح، والله، والخير الذي يأتينا منه، فان الحرية وسائر الخيور تتحول وتتسامى، بفضل روح الفقر، والتضحية، والطاعة للروح القدس.
ان القرن العشرين كان أكثر العصور فتكا بالانسان. وغالبا ما يهمل احصاء العديد من الضحايا، فيما بينها العدد الأكبر من ضحايا الاجهاض بواسطة الجراحة، وحبوب وسائل منع الحمل، وقد بلغت ضحايا الاجهاض بين عامي 1973 و2000 في الولايات المتحدة فقط أربعين مليون ضحية بشرية.
ومنذ سنة 1973 قتل الاجهاض ما يقارب الأربعين مليون جنين في السنة في العالم، وهو رقم يبلغ في مدى ثلاثين سنة نحو ملي
ار ونصف ضحية. والسبب المباشر لهذه المجزرة الخطيرة في التاريخ، هو عقيدة تأييد الاجهاض، وهو أحد اخطر المساوئ التي أصابت البشرية.
ان تنبيه مار بولس الرسول واضح، وبليغ، وصريح، على ما جاء في رسالته الى أهل أفسس، وهو يقول:”لأن مصارعتنا ليست مع أعداء من لحم ودم، بل مع الرئاسات، والسلاطين، وولاة هذا العالم، عالم الظلام، ومع أرواح الشر التي تسكن الفضاء. لذلك اتخذوا سلاح الله الكامل، لتستطيعوا المقاومة في يوم الشرير، حتى اذا أتممتم كل شيء، تثبتون”. ان يسوع يجسد روحه الالهي، روح النور، والحياة، والمحبة في ثقافة الحياة. ان لوسفاروس، رئيس الشياطين يجسد روحه الشيطاني، الكذاب، روح الموت، والبغضاء، والكراهية في ثقافة الموت. ولما لم يكن هناك أرض محايدة، لخلاصنا أو في هذه الحرب الروحية الضروس بين ثقافة الحياة أو ثقافة الموت، يصبح من واجبنا الملح أن نقف مع الله وقفة حازمة، وليس ضده.
ان الله يرغب ويريد أن يخلصنا. وهو يحبنا بما لا يقاس وبما لا يمكننا أن نتخيله. وهو يترك لنا الحرية في أن نختاره أو ان لا نختاره. وعقيدة تأييد الاجهاض تتناسى هذه النقطة الأساسية. يمكننا ولا شك أن نختار الذهاب ضد الله، ولكننا نجد الموت والشيطان، بدل التحرير. والخيار الآخر هو أن نحب بعضنا بعضا “كما أحبنا”. محبة الآخرين محبة ملهمة، بطولية، الهية، هي في الوقت عينه الطريق التي بواسطتها نتقدس، والطريق التي بها نحقق ثقافة الحياة. كل شيء يعتمد خيارنا يسوع خيارا أساسيا، وهو الحرية الحقيقية، وشريعته، شريعة المحبة، هي طريقنا وحقنا، وحياتنا.
احترام الحياة واجب لا مجال الى التنصل منه. وقتل الجنين كقتل الانسان البالغ، أمام الله. وأول وصية أنزلها الله على الناس من الوصايا التي تتعلق بهم لا به، هي نهيهم عن القتل. ومع ذلك نرى القتل يفعل فعله في كل مكان، وخاصة عندنا في هذه الأيام البائسة التي نعيشها، وكل يوم تسقط على أرضنا ضحايا، وبخاصة ضحايا تدافع عن شرف الوطن، وحرماته، وكرامته، وأرضه. وهي ضحايا من صفوف الجيش اللبناني من كل المذاهب والمشارب، وقد وحدها حب الوطن، فاندفع أفرادها يفتدونه في أرواحهم لا يهابون الموت حبا بالوطن وقيمه.
ليتنا نرى هذا الاندفاع في محبة الوطن يعمر قلوب جميع المواطنين، وبخاصة الذين يفترض فيهم أن يكونوا في مقدمة من يدافعون عن كيانه، وقيمه. وكيف في امكاننا أن نشرح هذا المنزلق الذي انحدروا اليه، فراح كل منهم يفسر الدستور اللبناني على هواه، ويحمله ما لا يحتمل، ولم يتورع بعضهم عن زجنا في هذا المعترك، ونحن على مسافة واحدة من الجميع، ولا نبغي الا الخير للجميع.
وكان بالأحرى بهم أن يتعاونوا على البحث عن المصلحة العامة التي تقي البلد الصغير المزيد من الشرزمة والتباعد بين أهليه، وهذا الضياع الذي ندور فيه. وهناك من يجرؤ على التفكير بحكومتين، ورئيسين، ولبنانين. وكأننا نسينا ما كان سابقا في العقد الأخير من القرن الفائت، ولا تزال التجربة المرة قائمة في الذاكرة.
ولكم يؤلمنا أن يتجاهل الشعب المسؤولون عنه، وقد بات يعض الجوع بعض طبقاته، فتبيت على الطوى. وبدلا من أن يقصروا همهم على التخفيف من تعاسته، نراهم يمعنون في اذلاله. ومعلوم أن الدساتير والقوانين والشرائع تجعل لتنظيم حياة الوطن والمواطنين، لا لعرقلتها، وحمل المواطنين على الكفر بالوطن.
وانا، نصلي الى الله، وندعو جميع المؤمنين ألى الصلاة، ليلهم الله المسؤولين خير السبل لاخراج الوطن من دوامته، رأفة بالشعب الكادح الذي بات لا يهمه من يومه الا تأمين خبزه وخبز عياله.
هدانا الله سواء السبيل، وارشدنا الى ما فيه رضاه”.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير